حكاية اللقالق والنساء والوطن.. قراءة في رواية «الديوان الأسبرطي» الحائزة على البوكر 2020

عربي بوست
تم النشر: 2020/10/22 الساعة 11:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/22 الساعة 11:59 بتوقيت غرينتش

الزمن في رواية عبدالوهاب عيساوي " الديوان الإسبرطي" الصادرة سنة 2019 عن دار ميم للنشر في الجزائر، والحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر عام 2020، منشغل بالتكرار، بحيث يصبح من المستحيل أن يؤولَ إلى انتهاء.

بناء الرواية قائم بالأساس على وجود خمس شخصيات. تحكي كل شخصية الحدث نفسه من وجهة نظرها، فنشعر أنه يعاد من زاوية جديدة مكرراً، ولكن هذا التكرار غير ممل أو بالٍ، إنما هو تكرار فيه انشغال حاضر وحالي بالحدث، يؤسس لاستباق لاحق، يحول المحكي إلى بؤرة وعي مفتوحة على كل احتمال، البدء أو الموت.

هكذا فإن كل شخصية هي ذاتها الحدث، كلامها عنه وهو ماضٍ غير موجود، وانشغالها بما يحصل في اللحظة المحكية، يوجه اللحظة المعيشة نحو المستقبل، وبذلك هو يحقق وجودها ولكن نحو المستقبل، وهنا تصبح كل شخصية هي مستقبلها، وبين ماضيها الذي لم يعد موجوداً، وبين مستقبلها الذي لم يوجد بعد، يبرز الحاضر.

الحدث الذي تتناوب الشخصيات الخمس على سرد مجرياته ونتائجها على المكان والناس، هو التمهيد لاحتلال الجزائر بين عامَي 1815 و1833، بدءاً بمعركة واترلو وانتهاء برحيل اللجنة الإفريقية. والشخصيات هي توالياً: الصحفي ديبون الذي رافق الحملة ودوَّن ملاحظاته عنها، وكافيار وهو بالأصل جندي من جنود نابليون، أُسر وعذب ثم حين قامت الحملة تحول إلى أحد متنفذيها والمخطط الأول لها، وابن ميار وهو أحد الشخصيات العربية الثلاث في الرواية، ظل متمسكاً بإيمانه بالسلم والحوار، يلاحق المندوبين ويقدم العرائض والشكاوى للمسؤولين الفرنسيين، وحمة السلاوي الثائر المختلف الذي يساعد البغايا في المدينة ويدافع عنهن ويقتل المزوار الذي يشغلهن، وأخيراً دوجة التي تحولها الظروف والاحتلال إلى مومس.

توغل الرواية في وصف ما حصل في التاريخ من وجهة نظر معاينة، وكأن الشخصيات شهود عيان على تفاصيل يومية في زمن الحرب. يحاول الكاتب من خلال تناوب السرد على ألسنة الشخصيات أن يكشف لحظة التاريخ من وجهة نظر إنسانية، متتبعاً سير الحدث خلال ثلاث محطات أساسية في القص هي توالياً: انطلاق السفن نحو المدينة بحماسة وقوة، ثم لحظة الوصول والتدمير وما رافقها من هدم وحرق للمساجد وتخريب البيوت واحتلالها وتشريد أهلها وإزاحة حكم العثمانيين عنها، ولحظة ضياع الحق بإجلاء لجنة تقصي الحقائق وخروج أهلها منها نحو مصائر مختلفة.

يمكن أن تجمع تلك الشخصيات الخمس في محورين: الخير/ الشر مع ما يندرج تحت هذين المحورين من قيم ومعانٍ وسعي واختلافات وتناقض وحروب وانهزامات، وما ينتج عن هذا الصراع من محصلات قيمية ووجودية تحكم حياة الناس في العالم منذ الأزل، كما تصف واقع الجزائر والعالم العربي تاريخاً ومستقبلاً وحاضراً معيشاً.

ما يراه الصحفي الملتزم بتعاليم المسيحية في الحملة يبدو فتحاً نورانياً يجعله لا يتمكن من رؤية مشاهد القتل والتدمير، وخدمة إنسانية لأهلها البرابرة الذين يحكمهم المور (العثمانيون) ويجعله يصادق ابن ميار ويرافقه في سعيه للحصول على مكاسب تجنب المدينة مزيداً من الخسائر وتعيدها إلى أهلها من دون إراقة الدماء "لم يبقَ لي سوى الركض مع ابن ميار، نحلم أن نغيّر المدينة" فهو بذلك يقف للشخصية المتعاطفة ولكنها مغرر بها لا تعي حق الوعي معنى الحملة العسكرية أو لا تريد أن تصدق أن بلادها التي تبث نور المسيح في العالم قادرة على إرسال الموت إليه "عجبت لهؤلاء الرسامين الذين قدموا مع الحملة، يقتربون من مكان الرمي…و استغربت أن هناك مَن يغامر من أجل لوحة يخلد فيها مشاهد للقتل" ص 248.

يرى كافيار في الحملة انتقاماً شخصياً من العرب والعثمانيين الذين عذبوه واستعبدوه حين وقع أسيراً في أيديهم، يقوم هو في الرواية بدور مناقض لسعي ابن ميار، يمثل الشر الذي لا يوقفه شيء عن بلوغ غايته، لا يؤمن بالله الذي يؤمن به صديقه وزميله ديبون الذي يحبه رغم تناقضهما، لم يكن حولي سوى الشيطان يطل من شقوق الجدران… يردد في ظلام المنابر العفنة أنه إله جديد لهذا العالم" ص 111.

هنا يتحقق محور الشر الخير/ ضمن فريق المحتلين للمدينة. فيتبدى من خلاله اللبس العميق بين صورتي الخير والشر فلا خير محقق في مشاعر ديبون، ولا شر مطلق في سعي كافيار. "كافيار الذي فقد الآن الكثير من صفائه، عندما حملت روحه العذاب، وخيبات أعادت تشكيله، فأضحى شخصاً مختلفاً، لا يكاد يميز ملامح روحه كلما أبصرها في مرآة لم تكن إلا وجه ديبون" 242.

 ابن ميار يحلم بتحرير المدينة رغم الصعوبات التي تواجهه في محاولاته الحثيثة واليومية استرجاع المساجد وطرد المحتلين، يقف للخير بإيمانه بالحوار وكرهه إراقة الدماء رغم وعيه بقسوة المحل وإدراكه أن مدينته باتت مدينة الغرباء "بتلك الحروف اللاتينية بدا اسمي غريباً، أيعقل أن تصبح كل أسماء أهل المحروسة بهذه الغرابة بعد سنوات؟" 207. وجهته في سعيه الشرق حيث المساجد التي كان يقضي نهاره سعياً في إعادتها إلى أهلها، من دون أن يسلم لفكرة فقدها نهائياً "وبعد أيام كنا نصغي مرغمين إلى أجراس الكنيسة الجديدة التي حلت محل مسجدنا، وصرنا لا ننتبه حتى نفاجأ بأنفسنا أمام الكنيسة، وفي اعتقادنا أن المسجد ما يزال هناك".

فيما حمة السلاوي الثائر المناضل ضد الاحتلال، الذي يقتل المزوار ويلتحق بجيش الأمير يمثل الشر في هذا المحور، رغم أن نواياه خيرة وشعوره نحو مدينته وأهلها شعور عميق "وقفت على عتبة باب مخلوع، وددت لو أعيده كان قلبي أيضاً قد خلع… ولم يكن هناك إلا مزيد من الظلام" 218.

إن تناوب السرد بين الشخصيات الأربع، وتواليه تباعاً بينها، فيما تذكر كل شخصية الحدث كما لو أن الآخر في محورها هو من كان ليسرده، فلا ذكر لديبون من دون كافيار ولا لابن ميار من دون السلاوي، لدليلٌ على أن كل شخصية هي ذات الشخصية المقابلة لها، وإشارة مؤكدة إلى أن حدود الخير والشر في كل منها مائعة بشكل يجعلها واحدة.

كما أن تباين مدى ضراوة الشر وتفاوت الخير في نفس كل شخصية، كما اختلاف سعي شخصيتي كل محور، لا يشير إلى أن عيساوي كان على الحياد من احتلال الجزائر، أو إلى أنه يلوم فريقاً على حساب فريق آخر، إنما يشير إلى محاولاته ككاتب أن يترك الحرية للشخصية بتبني الموقف الوجودي الملائم لطبيعتها ودورها في سرد الأحداث، كما أنه يتناسب مع فكرة التكرار المفضي إلى المستقبل، بكون كل شر هو وجهاً آخر للخير والعكس صحيح، ما يجعل كل شر محرك للحدث هو إمكانية خير محتمل قادم. كما أنه يجعل الرواية واقعية لحقيقة تلاحم الشر والخير في النفس البشرية، ولكون التاريخ لم يكن غير كتابة أفعال شر باسم الخير، نتج عنه صراع أبدي اسمه الحياة لا الشر فيها مطلق ولا الخير.

دوجة هي الحياة. إنها آخر من يسرد الحدث المتكرر، وهي من يصف الأغاني في كلامها عن لالة مريم، وهي من يناجي الله "يا رب بحق محبتك للأطفال… اجعل كل الغائبين يهتدون إلى بيوتهم" 310. الصراع فيها وعليها، تمثل بسطاء الناس الذين لا تشغلهم الحرب عن الحب. فقدت كل أحبابها واحداً واحداً مثل المحروسة التي ودعت أهلها موتى أو مطرودين "كان مقدراً عليَّ مشاهدة كل الذين أحبهم يدفنون" ص 233، وهي من ينتظر رجعة حبيبها السلاوي كلما ابتعد وهي من تودعه حين يختار الرحيل إلى أجل غير معروف وهدف غير محدد، وهي التي سلبها الموت عزتها وشرفها فتحولت إلى بغي تبيع جسدها من أجل العيش. حين مات والدها وأخوها أضحت فريسة سهلة للمزوار الذي باع وطنه وهادن المحتلين من أجل أن يحتل عرش المال ببيع الشرف، وحين دافع عنها السلاوي لم تحمها أحلامه الثائرة من حقيقة ضياعها في أحضان الرجال. كم تشبه دوجة المحروسة/الوطن، يحتل جسدها المزوار وتظل روحها معلقة بظلال أبنائه حتى حين يرحلون عنها.

بكونها الشخصية الخامسة في السرد فهي تختتم حلقته الدائرية، وتحكم روايتها له كشاهدة وحيدة على الحقيقة. إذ إن الرجال في الرواية يروون ما عاينوه كفاعلين للخير أو الشر، فيما تبدو دوجة متلقياً أخيراً لكل السعي واختلافه، وهذا ما يمنحها قوة تشكيله ومنحه اسمه الأخير سواء أكان حباً أم حرباً.

إن بدء الرواية برحلة مفتوحة على أفق المتوسط، وسيطها السفن وختامها برحلة مفتوحة على الجبال البعيدة وسيطها الإنسان، يشير إلى فكرة التكرار أو العود الأبدي، التي بها يتحقق الآن ويرتسم الحاضر منفتحاً في اللحظة ذاتها على الماضي وعلى المستقبل، بحيث إن كل لحظة هي كل إنسان. حين تعيد دوجة رسم اللحظة الأخير فهي تعيد صدى الكل فيها، مختصرة حوادث التاريخ المحكي كلها وملخصة إياها على أنها المحروسة. هذا يمنحها الاقتدار على الحياة، ويجعلها كوطن تعمل على إنتاج استمراريته متجاوزة الجميع وصاهرة إياهم قيمياً.

تصف دوجة طيور اللقلق في الرواية، ليست وحدها بل لالة سعدية زوجة ابن ميار وابن ميار في أيامه الأخيرة قبل نفيه عن المحروسة يتوقف عند تلك الطيور. المعروف عن طيور اللقلق سفرها الطويل من موطنها في أوروبا نحو إفريقيا، كما تعرف هذه الطيور بغيرتها الشديدة على شركائها، وقد ارتبطت ببعض الأساطير المرتبطة بالعائلة وحب الوطن وحتى بولادة الأطفال، وفي بعض الحكايات الشعبية فإن هذه الطيور كانت جماعة من السارقين مسخوا، وفي بعضها فإن اللقلق بالأصل قاضٍ حاد عن الصواب فمسخه الله طائراً، وهذا ما يفسر لونه الأبيض ولون ذيله الأسود.

في كل الأحوال فإن رمزية اللقلق تضاف إلى محور الخير/ الشر الذي يصبح الوهم/ الحقيقة، وما لونه الأبيض الحامل لأطراف سوداء إلا إشارة إلى تداخل المصائر، إذ تنتهي الرواية بشتات أبطالها بين منفي ومغيب ومهاجر ومستسلم ووحدها تبقى في مكانها دوجة/ الوطن تقول في القسم الخامس والأخير من أقسام الرواية وكأنها المحروسة "هل منكم من حققت رغباته؟ وهل منكم من تمنى حلماً فأنجزه؟ الطائر الذي لم يرفرف إلا في أحلامي" 381.

تجدر الإشارة إلى أن الرقم خمسة الذي تتوزع الرواية فصولها عليه هو الوسط بين الأرقام من واحد إلى عشرة، وهو في علم الأرقام يرمز إلى احتمال انفتاح وبداية جديدة، قد تكون رحلة نحو المادة أو رحلة في طريق الروح، وهو بشكل كتابته دائري. أي إن عدد الشخصيات وأقسام الرواية يتناسب مع حركة السرد المتكرر التي تشكل انفتاحاً على المستقبل من خلال اقتدار السارد على تحويل اللحظة الآنية إلى انفتاح أبدي، واقتدار على تحويل الحاضر، حاضر الأنا والآخر، الوهم والحقيقة، الخير والشر، إلى مستقبل بما هو الإنسان.

لعل هذا ما يفسر التجاء الكاتب إلى التاريخ، إذ يرتكز الولوج إليه على إمكانية أن يتحول الحاضر إلى اختبار للقدرة الجزائرية والعربية والإنسانية بعامة، تمكن من ولوج المستقبل مشع بما هو قادر على ربط مصائر البشر بما هو جمالي قائم على مجيء الحقيقة وتجليها.

هكذا تصبح هذه الرواية محاولة للبحث عن أصالة مفقودة، من خلال نغم الروح الباحثة عن ركيزة حية لصراعها الوجودي، من دون أي محاولة لإعفاء الآخر أو إلغائه… هي محاولة لعبور نحو الأنا من خلال الآخر، للمستقبل من خلال التاريخ، للحب من خلال الحرب. وهكذا فإن الزمن الدائري يعود إلى الذات/دوجة/المحروسة ويمكنها من السيطرة على مقدراتها.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
وداد طه
روائيّة وقاصّة
روائيّة وقاصّة فلسطينيّة . تعمل في حقل التعليم والترجمة، حاصلة على دكتوراه في الأدب العربيّ. لها ثلاثُ روايات منشورة: ليمونة، أخون نفسي، حرير مريم، ومجموعة قصصية بعنوان قمر ليل طويل. ولها عدّة مقالات ومراجعات نقديّة في الرواية والاجتماع والفن.
تحميل المزيد