قبل أكثر من 8 سنوات بدأت في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي؛ فيسبوك، تويتر، إنستغرام، وغيرها، حتى لاحظت أن استخدامي لها أصبح أكثر من مجرد تواجد لإمضاء بعض الوقت أو التواصل مع بعض المعارف والأصدقاء، إذ يخبرني هاتفي الذكي، وهو حقاً ذكي، بعدد الساعات التي أمضيتها متنقلاً من تطبيق فيسبوك إلى تطبيق إنستغرام ذهاباً وعودة دون هدف واضح.
في كل صباح أتصفح بريدي الإلكتروني والرسائل الخاصة بي علی جميع المنصات، وعلی الرغم من أنني شخص انطوائي لحدٍّ قد يبعث على الملل، فإن ذلك لم يمنعني يوماً من الوجود والحضور باستمرار على مواقع التواصل الاجتماعي، وجود استمر حتى في أحلك الظروف التي مررت بها في حياتي الواقعية -أليس العالم الافتراضي واقعياً أيضاً- وذلك عكس الكثير من أصدقائي المقربين الذين يهرعون هرباً من كل المنصات حال استشعار أي مشكلة أو أزمة في الحياة الواقعية.
لكلٍّ منا نفسه وهواه وعقده الدفينة، وأنا أدرى بنفسي، وأعرف أن ذلك التشبث بالحضور الدائم والفعال على منصات التواصل الاجتماعي ما هو إلا عرض أو انعكاس لحالة العزلة والانطوائية التي أقاسيها في حياتي اليومية. أنا لا أقابل أصدقائي إلا نادراً، أنا أصلاً لا أمتلك من الأصدقاء إلا القليل. حتى قاطنو "قائمة الأصدقاء" في حساباتي لا ألتقيهم أبداً، وإن التقيتهم ينتهى اللقاء سريعاً، ولم يتكرر إلا بعد عام ونيف على الأقل.
لكنني أعتقد أن بالنسبة للأغلبية فإن منصات التواصل الاجتماعي هي منصات افتراضية يقيمون عليها الحياة التي يتمنون أن يعيشوها. وفي بعض الحالات تتحول الحياة اليومية إلى معرض نلتقط منه ما يخدم حياتنا الافتراضية. سأشتري ذلك القميص لأنه سيبدو جميلاً في الصور التي سأنشرها على إنستغرام، أو سأذهب إلى البحر كي ألتقط بعض الصور مثلما يفعل الجميع، وسأكتب عليها تعليقاً مميزاً، ثم سأستمتع بالإعجابات التي ستحصدها الصورة. لن أشتري القميص، بكل تأكيد، لأنني في حاجة إليه، وبطبيعة الحال لن أذهب إلى البحر كي أشكي له همومي.
إن مواقع التواصل الاجتماعي تمثل صورة حية لحياة يتمنون أن يعيشوها ولا يستطيعون، لذلك أصبحت حسابات الأغلبية على تلك المنصات صورة مزيفة، لم يعد هناك تمايز واضح بين الفرد والآخر، يتحول الناس ببطء لنسخ من أشخاص آخرين يتمنون أن يكونوا هم. ويتحول الناس على تلك المنصات التي أصبحت بمثابة "فاترينة عرض"، إلى "مانيكان" أو مجسّد يعرض من خلاله ما يمتلكونه.
ورغم أن أغلب المستخدمين وبالأخص الشباب يقضون الكثير من الوقت علی منصات التواصل، فبمجرد بحث صغير في قائمة أصدقائك ستجد أن أغلب المنشورات المتداولة تتحدث عن الوحدة، عن افتقاد الونس وعدم وجود رفقة، ورغم العدد الكبير من التعليقات الذي ستجده علی أي منشور من قبل أشخاص يثبتون حضورهم، فستجد أنه لا أحد يشكو من الوحدة إلا وهو يشعر بها فعلاً، فالوحدة أنواع، أقساها الشعور بالوحدة بين الناس.
وبينما هم يتحولون إلى نسخ من بعضهم البعض لا ينفكون عن الشعور بالوحدة، الذي أصبح شعوراً مهيمناً على جيل الشباب، في مرحلة عمرية يفترض أن يكون ملؤها الاشتعال والانتعاش والخوض في خضم الحياة، لا أن يهربوا من التجمعات والحياة بكل ما أوتوا من قوة. أهداف الانعزال والوحدة كثيرة، لكن ما لفت انتباهي هو الرغبة الجارفة في لفت الانتباه والبحث عما يفتقرون إليه في الحياة الواقعية.
وفي نفس السياق، تقول الباحثة فريدة أحمد: "على الرغم من أن الإصابة بالأمراض العقلية والنفسية كانت منذ عقود مضت وصمة عار يحاول الكثيرون إخفاءها، فإننا اليوم نأخذ منحنى عكسياً آخر في التعامل مع المشكلة ذاتها، فبدلاً من التعامل معها بجعل المرض العقلي أمراً مقبولاً لا يستدعي النفور أو الإحراج صار هناك ميل، وخاصة في ظل وجود وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جعل الجنون والاكتئاب والحزن وحتى الميول الانتحارية سمة من سمات الجمال المأساوي الحزين (…) واحد من أكثر التشوهات الفكرية التي سببتها منصات التواصل هي تجميل ما لا يجب أن يكون جميلاً. الحزن ليس جميلاً ولا يجعلك أكثر جاذبية، لن تُغيّر الصور الفنية لحبوب الانتحار أو مسدس يطلق الزهور حقيقة أن المرض العقلي ليس شكلاً من أشكال العمق يمكنك "إتقانه"، إنها تجربة يمكن أن تجعل كل يوم من حياتك مؤلماً وتعيساً، الأمراض العقلية ليست "جماليّة ولا شاعريّة"، إنها دموع وصدمات ونوبات حزن وهلع، إنها علاج وأدوية وأفكار انتحارية وتدمير للذات، إنها معركة يومية قد تشعر باستحالة الفوز فيها، الألم لا يعني الجمال، الألم يساوي الألم".
إدمان وتوهان
كما أن إحدى كوارث إدمان البقاء على منصات التواصل الاجتماعي هي محو وطمس طرق ومهارات التواصل الاجتماعي بشكل شبه كامل. فكتابة رسالة وإرسالها لشخص ما، وهي طريقة التواصل الأكثر شيوعاً في العالم الافتراضي تختلف تمام الاختلاف عن رؤية ومقابلة ذلك الشخص وجهاً لوجه، أو حتى الحديث معه عبر الهاتف، لك أن تتخيل أننا في وقت قادرين فيه على تكوين صداقات عابرة للقارات، فإننا غير قادرين على مقابلة صديق أو زميل أو حتى التواصل مع أهلينا بشكل سليم.
ولكن، ووسط كل تلك الشرور، ما الذي يدفعني ويدفعكم للاستمرار؟
مع الوقت تحول هدف وجود الناس على المنصات من متابعة ما يحلو لهم، إلى فعل ما يحلو للمتابعين. وبدأ الجميع في محاولات حثيثة زيادة أعداد المتابعين، لزيادة ثقتهم في أنفسهم، ولتغذية "الأنا" خاصتهم، وبدأ البعض في الاعتماد على تلك المنصات في كسب العيش واستخدام عدد المتابعين الكبير في الترويج لمنتجات شركات أو حتى لشركاتهم الخاصة، ما يجعل وجود الأغلبية يومياً علی المواقع أمراً لا بد منه.
في مقال نُشر بقلم الباحث بمعهد ماساتشوستس، مارك فيسكيتي، عن تأثير مواقع التواصل علی العلاقات الاجتماعية قال:
"يتحدث الناس عن عدم احتياجهم لأوقات الهدوء والسكينة على الإطلاق، وبمجرد أن يحدث هذا ينظرون إلى هواتفهم ليعودوا إلى حالة التوتر. لم يتعلموا إجراء أحاديث أو إقامة علاقات يتخللها الهدوء والسكينة".
"السوشيال ميديا" آفة وسلاح ذو حدين، يمكنها تقريب البعيد، وإبعاد المقربين كما يحدث في العائلة التي يجتمع أفرادها تحت سقف واحد، ولكن كل شخص فيهم يمسك هاتفه طوال الوقت ولا يتبادل إلا كلمات معدودة مع أخته أو أخيه. يمكن لمواقع التواصل أن تجعل المرء يشعر بالونس والألفة من خلال التفاعلات والنقاشات الرائجة عليها، وليس تكوير المرء حول عيوبه ونقائصه لأنه غير مثالي بالشكل الكافي ولا يستحق التقدير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.