تشكلت إدراكات كُثر منا، منذ عقود، على فكرة أننا بصدد الصراع على الوجود، وفقاً لمقولة: "نكون أو لا نكون"، وهي مسلَّمة تنطوي على نوع من التسليم بأننا ننتمي إلى أمة مهددة في وجودها، كما تنطوي على نوع من العجز المبطن إزاء القوى التي تستهدف تلك الأمة. والمشكلة أن تلك المقولة تطرح في ميدان الصراع ضد إسرائيل، وهي دولة صغيرة من حيث الحجم وعدد السكان والموارد، فضلاً عن أنها دولة مصطنعة، وغريبة عن المنطقة، وليس لها تاريخ فيها، ويتألف سكانها، المستوطنون، من مهاجرين أتوا من عشرات البلدان، سيما أن مواطني تلك الدولة من اليهود الإسرائيليين يسكنهم هاجس الخطر الوجودي نسبة لوجودهم في منطقة عربية، مع لغة واحدة وتاريخ واحد وآمال واحدة.
وفي الواقع فإن تلك المقولة عوّدتنا عليها الخطابات السياسية التي صدرتها الأنظمة الحاكمة، طوال العقود الماضية، لتغطية عجزها إزاء إسرائيل، وأيضاً لتغطية تحكمها في مجتمعاتها، ومصادرتها حريات وموارد مواطنيها، بدعوى الأمن القومي. أيضاً، ثمة عديد من المشكلات لتلك المقولة الرائجة، أولاها، أنها تغفل الحاضر، بكل مشكلاته، وتذهب مباشرة إلى المستقبل، أي تصادر على المستقبل، بدعوى أن ليس بالإمكان أفضل مما كان وهو الحفاظ على الواقع القائم. وثانيتها، أنها تعتقد أن مشكلات العالم العربي تنبع من المشكلات والتحديات الخارجية، في محاولة لتجاهل أو لطمس المشكلات الداخلية. وثالثتها، أنها تتعاطى بصيغة الـ"نحن"، أي بلغة جمعية، باعتبار أن مجتمعاتنا بمثابة كتلة واحدة، صلبة وناجزة ونهائية، وهو ما ثبت عدم صحته، بدليل أحوالنا اليوم، بواقع أن تلك الأنظمة أسهمت في تفكيك مجتمعاتنا، ووضع جماعاته في مواجهة بعضها بعضاً، وفقاً لسياسة فرق تسد، التي تعلمتها من السياسات الاستعمارية!
ولعل هذه النظرة الواحدية، التنميطيّة والتعسّفية والقاصرة، هي التي تفسّر تعاطي البعض مع مشكلة اليمن باعتبارها تكمن في وجود الحوثيين، وفي أمكنة أخرى ربما في وجود الأمازيغ، أو الكرد، أو النوبيين، أو الأقباط، أو الشيعة، مثلاً، كأن هؤلاء هبطوا من السماء، أو غرباء أتوا من خلف الحدود، وليسوا من نسيج هذه المجتمعات وجزءاً من ثقافتها وحضارتها.
الواقع أن هذا النمط من التفكير الساذج والقاصر يؤدي إلى إضعاف مجتمعات المنطقة وتفكيكها، ويدفع بعض مكوناتها لإيجاد بدائل للدفاع عن ذاتها من خارج الحدود، على نحو ما يحصل مع الأسف.
وعدا عن أن مشكلة أية جماعة بشرية تكمن في السلطة، ونمط الحكم وتوزيع الموارد، أي أنها مشكلة عامة، فإن مشكلة الجماعات المذكورة، إثنية أو دينية أو مذهبية أو حتى قبائلية أو مناطقية، لا تكمن في وجودها، بقدر ما تكمن، أولاً، في تبنيها سياسات استئصالية، كردة فعل على ما تعتقده ثأراً للمظلومية التي وقعت عليها في زمن سابق. وثانياً، في قبولها الانضواء في التوظيفات السياسية لدول إقليمية، ما يموضعها خارج إطار أي مشروع وطني في مجتمعها. وثالثاً، في انتهاجها العنف بدل انتهاج الوسائل السلمية والديمقراطية، وهو ما تفعله جماعة الحوثي في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق و"حزب الله" في لبنان والجماعات الإسلامية المسلحة والمتطرفة في سوريا.
هكذا اكتشفنا في السنوات الماضية، وبسبب الأيديولوجيات السلطوية، ملكية وجمهورية، قومية ودينية، مذهبية ومناطقية، أن مجتمعاتنا مفكّكة، وهوياتنا ملتبسة، وأن إجماعاتنا، وإدراكاتنا لذاتنا، متوهّمة، أكثر مما نعتقد. فقد عرفنا، بشكل متأخّر، وبثمن باهظ، أننا لسنا مجرد عرب، أو مسلمين، إذ هؤلاء يتوزعون كسنّة وشيعة ودروز وعلويين وإسماعيليين وسلفيين وصوفيين وجهاديين ومعتدلين ومتطرفين. وثمة عرب مسيحيون، أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت. فوق ذلك ثمة الكرد والنوبيون والأقباط والأمازيغ والتركمان والشركس. وإلى جانب الهويات القومية والإثنية ثمة هويات، أو انتماءات وعصبيات أيديولوجية، لا تقلّ في أهميتها عن سابقتيها، لا بل إنها أضحت بمثابة "أديان" أرضية.
على ذلك لا مناص للخروج من التفكّكات الاجتماعية والاحترابات الأهلية، إلا بالتحول إلى دولة مواطنين، ديمقراطية دستورية، وقبول واقع الاختلاف والتنوع والتعددية في مجتمعاتنا، واعتبارها عامل قوة وحيوية وغنى. هذا ما أفادت به التجربة الأوروبية، مثلاً، ويبقى لنا اختيار كيفية تعلم هذا الدرس، بالطريقة الصعبة أو بالطريقة السهلة.
على ذلك من المهم إدراك أن الصراع يجري على شكل الوجود، وليس على الوجود ذاته، خصوصاً إذا كان الحديث يدور عن مجتمعات ممتدة في عمق التاريخ، وتمثل كتلاً اجتماعية كبيرة، ومتجانسة، إذ العالم العربي يتألف من كتلة بشرية هي الثالثة في العالم بعد الصين والهند، مع ثروات باطنية هائلة، لذا فإن الأنظمة، أو الدولة، تلعب دوراً كبيراً في ذلك، من الناحيتين السلبية أو الإيجابية، وبما أنها حتى الآن لعبت دوراً سلبياً، ومعوّقا، لذا يستلزم الانتقال إلى دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، والفصل بين السلطات، والتداول على السلطة، للتحول نحو الدور الإيجابي.
قصارى القول، وإلى ما تقدم، فما يلزمنا هو أن تنتقل مجتمعاتنا من وعيها ذاتها في ذاتها، إلى وعيها ذاتها، لذاتها، أي لمصالحها، وأن تتمكن من إدارة واستثمار مواردها البشرية والمادية على نحو صحيح، بما يمكنها من التصالح، والتكيف، مع الواقع والعصر والعالم، وليس فقط استمراء العيش على التاريخ، أو على أمجاد الماضي، وذلك بالانتقال من الصراع في التاريخ، أي في الماضي، إلى الصراع على التاريخ، أي على الحاضر والمستقبل،.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.