أكثر من مجرد نكتة.. كيف تشكل “الميمز” وعي الأجيال الجديدة؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/10/20 الساعة 14:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/21 الساعة 13:22 بتوقيت غرينتش

السخرية، تلك اليد التي تنزع الأقنعة المتواري خلف هيبتها وسطوتها وجوه أليفة وعادية يمكن مقاومتها. تنزلق السخرية من عقب الأبواب المتعالية على النقد، ابتداءً من ذات صاحبها، مروراً بالسلطة والحاكم الذي يمكنه التصدي للمواجهة المباشرة بكفاءة وحرفية، لكن حصونه عاجزة أمام الحيلة والمراوغة. تأتي السخرية كخيط دخان في الليل لا يصدر ضجيجاً، تبدو كأنها اللاشيء إلا أنها تبطن كل شيء.

وإن كانت السخرية هي اللغة، فإن "الميمز" هي أحرف وكلمات تلك اللغة الأكثر شيوعاً، حتى إن الجهل بمضمون إحدى تلك الصور كفيل ببعث شعور بأنك كائن شاذ ملقى على هامش الإنترنت، وبات ذلك الجهل نقيصة وعيباً تدفعان صاحبهما إلى السؤال همساً عن المعنى الذي لم يلتقطه.

دفع الانتشار الواسع لمصطلح لم يجد طريقه لقواميس اللغات المعروفة من قبل، دفع البعض للبحث عن نشأته، ومحاولة التعرف عليه من الداخل للإمساك بتلابيب "الميمز" وكشف غموضها، وقد يزيل الالتباس الذي أصاب البعض حول معناه تتبع الجذور وصولاً للمنشأ الأصلي.

لكن هذا ليس غرض مقالنا، إذ سأحاول تحليل آثار انتشار "الميمز" وكيف تحولت إلى جزء لا يتجزأ من الوعي الجمعي عن طريق التحوير وإعادة إنتاج الواقع، آملين استكشاف النتائج المترتبة على منتج الثقافة الأسرع في الوقت الراهن.  

الميمز بديل عن الأمثال الشعبية

تتعامل الأدوات المنوط بها إقناع الناس بفكرة ما مع قضايا أساسية للغاية، تلك القضايا تتطلب قدراً كافياً وفعالاً من الإقناع والمحاجة والفصاحة للترويج للفكرة وإقناع أكبر شريحة ممكنة بها أو إقناع الشريحة المستهدفة. هناك كثير من الكتب، على سبيل المثال، تتطلب من القارئ قدرة عالية على التركيز والانتباه لكل كلمة، نظراً للغتها الجافة التي ترهق العقل. في المقابل، توجد بعض الكتب الأخرى الأسهل، مثل تلك التي ترتدي زي الأدب وعباءة الرواية، فتروي قصة يستطيع الإنسان التفاعل معها واستخراج الدروس والأفكار دون الحاجة لقضاء ساعات طويلة في التفكيك والتحليل والاستيضاح وربما قراءة الشروحات المعقدة للنص الأصلي المعقد. 

بالنسبة للسياسيين، تلعب المَلَكة اللغوية والقدرة على الحديث دوراً كبيراً في إقناع الجمهور المتلقي، قد لا يتسم الحديث بالمنطقية لكنه يخاطب المشاعر فيصل سهمه لقلوب الحشد مباشرةً ويتحقق الهدف. 

وكذلك الميمز التي تبدو بسيطة، موجزة ومختصرة في رسائلها هي عبارة عن آراء ومشاعر وانطباعات وتحليلات كتلك الموجودة في الكتب وخطابات الساسة لكنها مكثفة واتخذت هيئة مختلفة لبلوغ غايتها.

هذا النموذج الجديد -أي الميمز- هو ابن للإنسان الحديث، الراغب والباحث عن الترفيه أكثر من البحث عن المعرفة. خطاب سياسي أو مقال طويل يجذب قلة من الناس مقارنة بـ"ميم" يتحدث عن نفس فكرة المقال، لكن الأخير قادر على الوصول لآلاف البشر في غضون ساعات مما يجعلها أداةً كفؤة لتشكيل اللغة والثقافة والخطاب، وحتى "هز وخلخلة" المعتقدات السائدة.

كتب الفيلسوف الفرنسي رولان بارت في كتابه غرفة التظهير أن الصور التي نتعرض إليها في حياتنا تولد لدينا إمكانية شعورين: الشعور الأول الممكن توليده هو الدرس، حيث نشعر بالرغبة في تفحص تفاصيل الصورة والوقوف على دقائقها وفهمها وهي عملية عقلية أساساً. والشعور الثاني هو الوخر؛ شعور آني سريع بالتفاعل مع مضمون الصورة، فرحاً أو ضحكاً أو حزناً.

والشعور الثاني أكثر توفراً وانتشاراً في مواقع التواصل الاجتماعي حالياً. كما كان الغرض ذاته يخدم في النكتة أو الأمثال الشعبية والقصص الموروثة، ومع التطور اتخذ شكلاً جديداً يتناسب مع صيرورة العالم الحالية، فصار "الميم".

يشير الدكتور خالد أبوالليل، أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، إلى أن النكتة رغم تصنيفها التقليدي كفن شفهي، لكنه استخدم كوسيلة لتجاوز قهر السلطة، انتقل مع مواقع التواصل الاجتماعي لمنطق الصورة، إذ تحولت لفن يقدم في قوالب بصرية. وبحسب مصطفى السيد حسن، الباحث الأنثربولوجي بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أكثر ما أثر بوضوح على البنى التحتية المتعلقة بالثقافة هي "الميمز"، لأنها تقوم بدور الأمثال الشعبية التقليدية، مستقاة من مادة واقعية كالأفلام والمسلسلات أعيد إنتاجها في قوالب جاذبة للتفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، بدلاً من التواصل الشفهي في الأمثال قديماً.

محاكمة الحاضر

قبل قرابة الخمس سنوات، أصبح الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر مرادفاً للفشل، تلك السخرية ليست سياسية أو علمية؛ إذ إنها لم تبنَ على رؤية نقدية فاحصة لمرحلة حكمه الممتدة من عام 1954 حتى وفاته في 1970، وإنما اختصت بثيمة واحدة ألا وهي هزائم عبدالناصر، مما جعله في الوعي الجمعي عند معظم جيل الألفية، ممن لم يعاصروا فترة حكمه، رمزاً للمهزومين وتعساء الحظ، يستعاد مع كل لحظة فشل تمر على الشباب حالياً.

ونظراً لأنه حتى لحظة كتابة المقال لا توجد الكثير من الدراسات النقدية العلمية التي تعالج تلك الفترة موضوعياً، فلم يكتب إلى الآن كتابات مستندة على الوثائق في هذا الباب على شاكلة "كل رجال الباشا" للدكتور خالد فهمي، الذي أرجأ السبب لعدم وجود وثائق كافية تصلح للدراسة نظراً لأنها محجوبة عن أعين الناس حتى الآن. وإلى أن يتغير الوضع، فسيبقى هذا الباب مغلقاً ومعرفة ما بداخله يقتصر على تحليل الشهادات ولملمة الأخبار من هنا وهناك لتأويل فترة حكم جمال عبدالناصر. استناداً على الموروث الشفهي المتناقل الذي يأبى الصور المركبة ويميل لثنائية القطب، سالب أو موجب، أسود أو أبيض فقط. وبغض النظر عن صحة تلك الادعاءات من عدمها، يجدر بنا التساؤل عن سبب  استعادة جمال عبدالناصر من الماضي حالياً، في صورة مغايرة تماماً لتلك التي سادت حديث الشارع في منتصف القرن الماضي، ومقارنة السردية التاريخية المختلفة التي تناقض القوالب البصرية الحالية.

كان إميل سيوران بحسب الكاتب الجزائري حميد زناز، يتحدث عن نفسه بطريقة ملتوية في البورتريهات التي خصصها لغيره من المفكرين، كانت كتاباته سيرة ذاتية مقنعة تروي ما يختلج في نفسه عبر تقمص تلك الشخصيات والحديث من خلالها، كما فعل أيضاً الشاعر أمل دنقل؛ إذ توارى خلف أقنعة التاريخ يحاكم ويواجه واقعه. أيمكن أن يمارس الوعي الجمعي تكتيكاً مشابهاً لتفريغ الكبت السياسي، محاكمة الحاضر بعباءة الماضي؛ حيث يصبح جمال عبدالناصر صورة يصلح إسقاطها على الوضع الحالي.

إن الأنظمة التي تعاقبت على مصر منذ 1970، تأثرت بالفترة الناصرية، بعيداً عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية، قدرت جميعها الحالة التاريخية التي سادت المجتمع في تلك الفترة. إذ ظل اسم جمال عبدالناصر يستدعى دوماً من السلطة، التي لم تخفي إعجابها بالإعلام ذي البعد الواحد، والكلمة الواحدة. بالنسبة للناس بالتأكيد لا يسخر أحد من الهزيمة التي لحقت بمصر في الستينات، لكن السخرية وتحطيم تابوهات الماضي قد تكون وسيلة لتفريغ الهم من الحاضر، الذي لم يسلم أيضاً من السخرية وتجريد الأقنعة، وسيفشل دائماً إن حاول السيطرة على السخرية منه في الفضاء الشاسع لمواقع التواصل الاجتماعي.

منذ صاغ عالم الأحياء ريتشارد دوكنز مصطلح "الميم" في كتابه الجين الأناني عام 1976، للتعبير عن انتشار الأفكار والعادات والأساليب لنقل ظاهرة ما في الثقافات، يعمل الميم كوحدة لحمل الأفكار والرموز، وأي شيء يمكن أن ينتقل من عقل إلى آخر بالمحاكاة والتقليد. ذلك المصطلح الذي صاغه دوكنز أقرب ما يمكن لوصف الميمز الموجودة حالياً، في الظهور ومن ثم الانتقاء والتداول المكرر إلى الوصول للموت ونسيان ميم لصالح بقاء الأصلح والملائم على قيد التداول.

كلما زاد بقاء واستعمال فكرة في "ميم" وسط مجموعة، زادت فرصة انتشارها على مساحة أوسع وبالتالي الوصول لأكبر قدر ممكن من الناس، الذين سيساهمون بدورهم في نقل الفكرة سواء بالمشاركة لنفس الميم أو إعادة إنتاجه وتحويره في صورة أخرى تخدم نفس الغرض. ويبدو بشكل ما أن تكرار استعادة صورة جمال عبدالناصر رسخها في الوعي الجمعي كرمز للفشل، وبقت على قيد الحياة لأنها مرغوبة.

طريقة انتشار "الميمز" من ناحية الكم تطابق تعريف دوكنز، فالمتابع لمواقع التواصل الاجتماعي منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني يجد التعرض للميمز بشكل مكثف، والتي استنسخت على سبيل المثال شخصية دولان في "موعمر القضافي" و"سي سي" بنفس منهجية تكسير اللغة، التي استخدمها عدد كبير كنوع من الانتماء لمجموعة معينة أو لأنها جذبتهم في هذا الوقت. ومنحت "الميمز" بعض الممثلين أدواراً جديدة، كضابط شرطة الأخلاق محمد صبحي أو الحكيم المتجسد في المعلم سردينة (نور الشريف)، وهو ما خدم انتشارها أكثر عبر تمصيرها وجعلها أقرب للمتلقي الذي لم يتعاطَها من المواقع الأجنبية، ووجدها متاحة بهيئة تلامس بيئته.

بالنسبة للهيئات الإعلامية وشركات التسويق، تأخر بعض الشيء في التعاطي مع "الميمز"؛ إذ بدأت كمصدر يُعاد إنتاجه وتحويره ومن ثم تحول الطريق بينهم الاتجاهين، حتى ظهر مصطلح جديد في شركات التسويق يدعى التسويق الميمي ليدخل دائرة رأس المال والربح، ولم يصبح قاصراً فقط على الضحك والسخرية.

الوسيط هو الرسالة

"الوسيط هو الرسالة".. الفيلسوف والكاتب الكندي مارشال ماكلوهان

في مقال بعنوان "The Role of Memes in Teen Culture". تلاحظ الكاتبة جينيفر ل. فينك استخفاف الشباب بفيروس كورونا الذي فتك بالعالم خلال الأشهر الماضية، فسألت ابنها كيف ستستعد؟ فأجاب سأفرك يدي بالليمون وهو ميم انتشر في الأيام الأولى من ظهور الوباء، بجانب بعض الصور الأخرى التي سخرت من تشابه اسم الوباء مع نوع شهير من أنواع البيرة، وهو ما حدث مع نوع شيكولاتة مصرية أيضاً.

غالباً ما يسخر المراهقون الأمريكيان من إمكانية حدوث حرب عالمية الثالثة، معللين بأنهم استعدوا وتدربوا كثيراً بممارسة ألعاب مثل فورتنايت وكول أوف ديوتي، وهي أفكار انبثقت من ميمز ساخرة. ومن ذلك يمكننا التساؤل عن إمكانية فهم آلام الضحايا الذين تعرضوا لأحداث مأساوية بعد فترة ما من السخرية من تلك الأحداث، ومعاملتها بمبدأ الترند يظهر ويتداول كـ"ميمز" ساخرة ومن ثم يختفي وينسى.

يرى عالم الأحياء جاك مونود بأن للأفكار "قوة انتشار معدية". كما طرح عالم الفسيولوجيا العصبية الأمريكي روجر سبيري فكرة مماثلة، يجادل بأن للأفكار "حقيقة" مثل الخلايا العصبية التي تسكنها، تتفاعل مع الأفكار في نفس الدماغ، ومع الأدمغة المجاورة، كما أنها تتفاعل مع المحيط الخارجي لتنتج تقدماً سريعاً في التطور يفوق أي شيء وصل إليه المشهد التطوري قبل ذلك. وبفضل سهولة التواصل حالياً بين العالم، يسهل تمرير معلومات وأفكار خاطئة أو مؤدلجة لخدمة اتجاه يسيطر على عدد كبير من الناس، متفوقاً على أكفأ آلات البروباغاندا في القرن العشرين، لاسيما أن صنع صورة بها بعض الكلام الساخر أيسر من صنع جهاز راديو وتوزيعه على المنازل بأسعار في المتناول كما فعلت ألمانيا النازية على سبيل المثال حين أرادت زرع أيديولوجيتها في منتصف القرن العشرين.

ربما كانت لغة رسول التشاؤم، سيوران، الساخرة انتصاراً ضد وطأة الواقع الموغل في السوء، حين أقحم قلعة الفلسفة برؤية فكاهية، خفيفة الروح، لكنها أيضاً ظلت متمسكة بقوتها الدرامية ولم تتفكك، فكانت السخرية الانتصار على حقيقة الحياة والموت على حد تعبيره، لكن هناك سخرية يجدر على الجهاز المناعي العقلي مقاومتها، لأنها تبدو لا شيء لكنها تحمل كل شيء، فالوضع يبدو كما لو أننا لا نفعل شيئاً سوى السخرية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة
تحميل المزيد