في عصر الحريات المطلقة، والانفتاح الجميل، والهويات المائعة، والبلاد التي لا تعرف الحدود، وكوكتيل العقائد الذي يمنع كل إنسانٍ من ذكر اسمه حتى لا يُعرف دينه، والإنسانية التي تجمعنا كلنا في رحابها المجيدة، حيث لا إرهاب يلوح في الأفق، ولا جرائم كراهية، ولا شيء غير مدينتنا الفاضلة، اعذرني، حين أبدأ مقالي بأن اسمي يوسف، وهو اسم تجده في الإسلام والمسيحية واليهودية، لكنني أؤكد لك أنني من أصحاب النسخة المسلمة منه.
ولأن الانفتاح أوصلَنا إلى التعري من هوياتنا، وإلى المطالبة بشطب خانة الديانة من البطاقة، فإنني أحب أن أكون على خلاف التريند، مصرّاً على ذكر اسمي وديانتي ومعتقداتي وأفكاري، لأن الدين لم يكن يوماً أزمةً، والإسلام لا يشكّل نكتةً سوداء في بياض البطاقة الناصع.
السيد ماكرون- ونطق الكلمة ليس بمدّ الواو، وإنما كما ننطق في العربية كلمة "مكرٌ"- يصرّ بين الحين والآخر على إعلان موقفه الواضح، ليس من المسلمين كأي رئيس لديه أزمة مع الدين لكنه دبلوماسي، وإنما يعلن موقفه الواضح من الإسلام نفسه، كأي رئيس غبي لديه أزمة مع الدين لكنه ليس دبلوماسياً يجيد التورية أو فنون المجاز، وإنما هو كأجداده واضحٌ تماماً، يمسك السلاح، ويطلق الرصاص، ويضحك في وجه الكاميرا، ثم يقتل المصور.
وكان لأجداد ماكرون باعٌ طويل، وللمسلمين معهم ثأرٌ ثقيل، بل إن الثأر يمتد للبشرية عامة، يمتد إلى قبائل إفريقيا، التي وجدت نفسها فجأةً مخطوفةً من جزُرها الآمنة وسواحلها الهادئة، إلى سفن يتحدث قباطنتها الـ"بونجور" والـ"بونسوار"، يُكبِّلونهم في أغلال أثقل منهم، ويصطحبونهم إلى بلاد الرومانسية المقنعة، لكن باريس لن تضحك لهم، ولن تهدي كل زوجين منهم ركناً يتبادلان فيه القبلات، وإنما ستسلبهم أدنى حقوقهم، وهو أن يكونا معاً من الأساس، فسيفرّق الأرباب الجدد بين المرء وزوجه، وسيقطع الأسيادُ الروابط بين العبيد الجدد، وسيبيعونهم بعد أن أخذوهم من بلادهم بلا ثمن، حتى المراكب التي اصطحبوهم عليها يشغلها عبيدٌ آخرون، والمحيط الذي يعبرونه يُطعَم لقروشه عبيدٌ اعترضوا على سوء المعاملة أو اعترضوا على هتك أعراضهم أو قاوموا الذل لآخر نفَس.
وفي الجزائر، حين رفع الجزائريون أعلامهم في الثامن من مايو/أيار عام 1945، كان مصيرهم مجازر جماعية بكل شارع، كان هدفها في الغالب ليس قمع مظاهرات الاستقلال، وإنما إفناء الشعب الذي يريده من الأساس، أو لعل البلاد ذات الأفق الضيق أرادت فتح آفاق أوسع لها في الوطن العربي، واختارت بلداً واسعاً كالجزائر ليكون مقراً لها، ربما فرعاً من باريس، عاصمة الحب والجمال.
وفي الجزائر، التجارب النووية، اليرابيع الثلاثة، بألوان العلم الفرنسي، والتي لم تكن واضحةً كألوان وجوه الجزائريين الشاحبة، الذين أجرت فرنسا عليهم تجاربها، لتقتل 42 ألف جزائري بالإشعاعات المميتة، خلال مشروعها العلمي البحت في منطقة "غير مأهولة بالسكان"، وغالباً لم تكن تقصد أن المنطقة غير مأهولة بالسكان باعتبار ما كان، وإنما كانت تقصد أنها ستكون كذلك، بعد التجارب.
وفي مالي، وتشاد، والمغرب وتونس، وفي مصر، وفي أعماق القارة السمراء، وفي كبد الوطن العربي، وفي كل مكانٍ تشمّ فيه رائحة الكرواسون مع الدماء، ستدرك لا مفر، أن فرنسا مرَّت من هنا، بينما كان الجنود يمضغون الكرواسون، كان الآلاف يمضغون نفَسهم الأخير، ولا يكادون يلفظونه من ثقَله، لأن موتهم لم يكن طبيعياً بالمرَّة، لم يكن منطقياً قط، كانوا فوق أرضهم، ثم فوجئوا بأنفسهم تحتها، وفوق التراب الذي دُفنوا تحته، يقف جنود مدججون بالسلاح، يخفونه وراء ظهورهم، بينما يقولون للعالم "ميرسي".
لستُ بصدد سرد وقائع تاريخية، ولا إعطاء درس في التاريخ، التاريخُ ببساطة يستطيع كل منّا الوصول إليه بأصغر عملية بحث، بزيارة قبور الضحايا، بجولة سريعة في الجزائر، أو مع أهلها، بنظرة عابرة إلى دول إفريقيا، كل ذلك تستطيع من خلاله معرفة تاريخ فرنسا الحقيقي، بعيداً عن المخبوزات ذات الرائحة النفاذة، التي لا تستطيع بأي حالٍ، التغطيةَ على رائحة البارود، ورائحة الحبر والعلم والفن والأدب، التي لا تستطيع أبداً التغطية على رائحة الدماء، وقنص الصدور التي تحفظ العِلم، وهدم الفنون فوق رؤوس الفنانين، ومحو الأدب بكعب البندقية.
وإنما نحن هنا في مقام "فضفضة"، اعتبِروها فضفضةً مع السيد ماكرون، عن الأزمة التي يعيشها الإسلام، عن الأزمة التي يعيشها العالم مع الإسلام، عن الأزمة غير الموجودة إلا في دماغ ماكرون الصبيّ الصغير، الذي بقيَ متحفزاً منذ حصص التاريخ في مدرسته حتى صار رئيساً، وهو يُخيَّل إليه أن المسلمين دخلاء على العالم، وأن أجداده وأعمامه كانت مهمتهم تحرير هؤلاء الهمج من التخلف، وجلب التقدم إليهم، وإن أبوا، فليكبّلوهم بسلاسل وأغلال، ويجلبوهم إلى التقدم نفسه.
ما الأزمة الحقيقية؟ وأين تقع؟ هل الإسلام دين جَرِّ شَكَل؟ هل يفتعل الأزمات ويولّد المشاكل؟ أم جاء ليُنهيها؟ على سبيل المثال يا سيد ماكرون، جاء الإسلام ليرغّب في إنهاء العبودية، ليقضي عليها بما يناسب عصره ثم العصور من بعده، ثم جاء أجدادك ليعيدوها إلى الواجهة، كأن الإسلام كان محطة تقدُّم بين جاهليتين، جاهلية قبله وجاهلية بعده.
أين الأزمة بالضبط؟ في الإسلام أم في فرنسا؟ في الدين أم اللادين؟ في تاريخنا أم تاريخكم؟ مَن الذي قتل أصحاب الأرض في كل مرة؟ من الذي احتل الدنيا وحرق كتبها ومكتباتها ثم جاء ليبني مكتباته في عاصمته، ليقول للعالم إنه العالم وحده؟ من الذي قتل الأساتذة ثم أهدى طلابهم بعثات عنده، ليقول إنه المعلم وحده؟ من الذي حَرَمَ الأطفال من القمح والشعير ثم وزَّع عليهم المخبوزات الساخنة، ليقول إنه المُطعم وحده؟ ومن الذي شنَّ الحروب وحرم العيون من السلام، ثم كتب عن الحب، ليقول إنه الرومانسي وحده؟ من الذي أراد القضاء على العالم، ليقول إنه وحده من يستحق الحياة؟ الإجابة تونس؟ أم فرنسا هذه المرة؟
حين يقوم رجل له لحية بأي حادث، لن تتهم الرجل، وإنما ستتهم الإسلام نفسه بأنه دين الإرهاب، أما حين يقتل رجلٌ من أي ديانةٍ أخرى المسلمين في مساجدهم، فإنك لن تتهم إلا الرجل وحده، فأين هي الأزمة؟!
الأزمة الحقيقية- يا سيد ماكرون- هي أن الإسلام يحاصرك، ملايين المسلمين في فرنسا؟ من كان يتخيل؟ الأزمة في أنك سترى حجاباً فوق رأس فتاة في شارع الشانزيليزيه، ولم تكن تتصور أن الإسلام وصل إلى هذا المكان، إلى هذا الحد، سترى سيدة محجبة مع أطفالها يتمشّون آخر النهار على ضفاف السين، ستسمع صوت الأذان القادم من حناجر الأطفال، أبناء المسلمين الجدد، أو المسلمين الأصليين، الجيل الجديد الذي لا تضمنه، ستجد الإسلام في عقر دارك نفسها، حين ذهبت لاستقبال صوفيا الأسيرة الفرنسية المحررة، فوجدتها الفرنسيةَ المسلمةَ الحُرَّة مريم، كأن حجابها كان كاشفاً لحجاب عينيك، فزاغتا أمام الكاميرات، وأنت خير من يتزين أمامها، لكن المقام لم يكن مقام اللقطة المرجوّة، أردت أخذ اللقطة فكنت أنت اللقطة.
أتحدَّث كمسلم عادي جداً، مقصّر في كثير من الأحيان، ليس داعيةً ولا سيخاً معمَّماً، وإنما كما ترى، شاب يحاول أن يكون مسلماً، أن يختار الدين الذي وجد نفسه عليه من البداية، فمن وضعي هذا أقول لك، إن الأزمة في الإسلام أنه الإسلام، ليس الدين الذي تريدونه، وليس الإسلام الذي يصفِّق لكم على الحريات دون أن يحددها، وليس الإسلام المائع الذي ستجده في أحاديث المنسلخين من فطرتهم، وليس الإسلام الذي يبيح لك حرية سبّ الإله ورُسله بينما تجرّم أنت سبَّك كرئيس، وليس الإسلام الضعيف الذي يسعى لإثبات أنه رقيق، يا تجار الرقيق، وليس الإسلام الذي تريدون تدريسه حيث لا فرق بين المسلم وغيره، وإنما هو الإسلام العزيز الواضح، الذي يشكل أزمة، ولا بد أن يشكل أزمة، في عالمٍ مدجج بالأقنعة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.