في ظهيرة رمضانية بغدادية شتوية منتصف تسعينيات القرن الماضي، وخلال إحدى الحصص الدراسية: رنّ جرس مدرستنا الثانوية على غير العادة مصحوباً بتوجيهات المدير والإدارة للإسراع بمغادرة الصفوف والتجمع في الساحة الملاصقة للمدرسة. تدفقنا نحو المجهول لنجد عشرات الأشخاص من المدارس والبيوت المجاورة وقد تجمهروا حول الساحة التي انتشر وسطها عشرات من أفراد الجيش والشرطة، بعضهم كان منهمكاً بنصب أربع أعمدة خشبية قرب جدار المدرسة. تهامسنا فيما بيننا للتساؤل عما يحدث، وسرت الإجابة بصمت "سيتم إعدام المجرمين الذين قتلوا العائلة الساكنة قرب المدرسة"، شخصت الأبصار تترقب رؤية المجرمين، أخرجوهم من صناديق سيارتين مدنيتين، ربطوهم على الأعمدة وأعدموهم رمياً بالرصاص وسط تهليل وتكبير الجموع.
بالنسبة لي ولزملائي الفتيان -لم نتجاوز الخامسة عشرة بعد آنذاك- كانت تلك المرة الأولى التي نرى فيها مشهد القتل والجثث عياناً، كنا نستمع لقصص الموتى عبر آبائنا وأقاربنا وأصدقائهم ممن شارك في الحروب والمعارك، لم نكن نعلم بعد أضرارها النفسية والاجتماعية، عليهم وعلينا وعلى الأجيال اللاحقة.
أجيال تتوارث ألفة الموت
منذ إطلاق أول رصاصة بين العراق وإيران في 1980 وحتى لحظة كتابة هذا المقال: أربعون عاماً، شهد العراق خلالها حروباً وأزمات وكوارث لم تشهدها البلدان الأخرى، ذاق العراقيون فيها الأمرّات لا الأمرّين فقط، وتكبدوا خسائر لا مجال لحصرها، بشرية وسياسية واقتصادية وبيئية ومعرفية، إلا أن الضرر النفسي والاجتماعي كان أكثر جسامةً لاستمرار آثاره على الأجيال وتضخمه بمرور الزمن، وللأسف لم تشخص تلك الأضرار كما ينبغي ولم تعطَ حقها بالرصد والتحليل والعلاج.
لا يعرف بدقة إجمالي عدد ضحايا الحرب العراقية الإيرانية، تقدرها بعض المصادر بمليون قتيل أو أكثر، حصة العراقيين منها النصف أو أقل، معظمهم من الرجال الذين تواجدوا على الخطوط الأمامية للجبهات. شهد الجنود الناجون مقتل رفاقهم وأعدائهم في معارك تكررت طوال ثماني سنوات، حملوا رفات أصحابهم ليدفنوها في ساحات المعارك أو ليسحبوها نحو الخطوط الخلفية تمهيداً لدفنها. كانت جنائز الجنود العُزب تُزف إلى ذويهم بالموسيقى كيوم عرسهم، لم يخل زقاق في محافظات العراق كافة من سرادق عزاء لأحد ضحايا الحرب، لم يَشهد المدنيون القتال إلا في المناطق الحدودية وقبيل نهاية الحرب عندما طال القصف المدن عبر الصواريخ.
لم يهنأ العراقيون بانتهاء حربهم مع إيران سوى عامين، ليجدوا أنفسهم في ليلة وضحها وسط مستنقع جديد أجبروا على الخوض فيه، وبعد أن كانت المعارك تجري على الحدود: ذاق المدنيون كأس الرعب الذي كان أبناؤهم العسكر يتجرعونه، طالهم النصيب الأكبر من القصف الجوي والصاروخي والمدفعي في الحرب التي شنتها جيوش 30 دولة وامتدت 40 يوماً، سقط ضحيتها حوالي 100 ألف جندي، وحوصر العراق بعدها 13 عاماً فقد خلالها ما يزيد على مليون طفلٍ دون سن الخامسة بسبب سوء التغذية.
وبعد اعتماد الولايات المتحدة استراتيجية "الصدمة والترويع" في غزوها للعراق عام 2003: تعدى أثر الصدمة الجنود لتشمل المدنيين الآمنين، ودارت حروب العصابات وسط الأزقة والبيوت وبين الغرف أحياناً طوال السنين الماضية. وتفشى الموت بين العراقيين بطرق لم يألفوها من قبل: (القتل على الهوية، المفخخات، الاغتيالات، قطع الرؤوس، تفجير المنازل، العبوات الناسفة، الهاونات والكاتيوشا) في أزمة طائفية وسياسية سقط ضحيتها بين 650 ألف إلى مليون قتيل، معظمهم قتل بيد أبناء البلد نفسه، فضلاً عن أعدائه.
الآثار النفسية لما بعد الصدمات
"أرني الطريقة التي تهتم بها أمة بموتاها، وسأقيس لك بدقة حسابية التعاطف الرقيق لشعبها واحترامهم لقوانين الأرض وولائهم للمثل العليا".
- رئيس الوزراء البريطاني وليم غلادستون
للأسف الشديد، تستقر الصحة النفسية والاجتماعية للأفراد في قعر اهتمام الأنظمة الحاكمة للعراق، السابقة منها والحالية، الإهمال الحكومي المتواصل نابع من إهمال شعبي لا ينظر بجدية للمشاكل المتجذرة والمتشعبة والمتفجرة داخل المجتمع. ومؤكد أن مشكلة رؤية الجثث وحوادث الموت المتكررة لا تحتل حيزاً كبيراً في تفكير الفرد العراقي مقارنة بالمشاكل الأخرى التي يعانيها، ولكن آثارها وأضرارها واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار.
"اضطراب ما بعد الصدمة" أحد أمثلة الآثار الناجمة عن الكوارث التي شهدها العراقيون، فعندما يشعر الناس بالخوف أو التهديد تحدث استجابة طبيعية تؤدي إلى حدوث تغييرات في الجسم للمساعدة في تجنب أي خطر، ولكن في اضطراب ما بعد الصدمة يتغير رد الفعل هذا أو يتلف، والأشخاص الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة قد يكون لديهم نفس الخوف والتوتر والخطر، حتى عندما لا يتعرضون لأي أذى، وعلى الرغم من ارتباطه عادةً بالجنود. إلا أن العديد من الأشخاص الذين مروا بأحداث مرهقة للغاية قد يصابون أيضاً بهذا الاضطراب العاطفي.
الطبيبة النفسية الأمريكية، كلوديا غرين، أعدت دراسة خلال فترة عملها مع سلك الشرطة طوال 28 عاماً، وصفت فيها الاستجابات النفسية العابرة التي قد تتطور لدى ضباط الشرطة بسبب التعامل مع الجثث البشرية والتعرض لخطر الموت:
ومن ردود الأفعال النفسية التي تذكرها الدراسة:
– فقدان حاد للسيطرة؛ الخوف والرعب يعظمان الإحساس الطاغي بالعجز والشعور بفقدان السيطرة.
– الافتقار التام للشعور بالعاطفة.
– الإرهاق الجسدي والعاطفي الناجم عن الأرق.
– الغضب المتواصل؛ تزداد درجة الغضب بما يتناسب مع حجم الشعور بفقدان السيطرة، ويصبح المرء ومن يحبهم على طريقين متباينين، وإذا لم تكن عائلته متعلمة ومستعدة لما يمكن توقعه وكيفية التصرف يمكن أن يحدث انشقاق كبير بينهما. وإذا لم تتم معالجتها في الوقت المناسب فقد تنفجر حتى أقوى الروابط الشخصية والزوجية والأبوية، وتزداد بذلك العلاقات الفاشلة وحالات الطلاق.
علاجٌ تنتظره الأجيال
لستُ طبيباً نفسياً ولا خبيراً اجتماعياً لأشخّص بالتفصيل معاناة العراقيين النفسية والاجتماعية وأصف لهم العلاج الناجع، ولا يمكن لأي عراقي أن يدفن رأسه بالتراب ويخدع نفسه بتجاوز جميع الآلام والمعاناة التي شهدتها الأجيال السابقة ظناً أنها لن تؤثر على الأجيال اللاحقة، ما نعانيه اليوم هو نتاج معاناة آبائنا، وسيعاني أولادنا وأحفادنا أيضاً إن لم نبادر -فردياً ومجتمعياً وحكومياً- بالانفتاح أولاً والمصارحة والحوار المستفيض والبحث وسؤال المختصين النفسيين والاجتماعيين، آملين أن نتخلص يوماً من كير الحروب وشرورها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.