من يقرأ مذكرات الساسة العرب، خاصةً المصريين منهم، سيجد بينها خطاً ونفَساً تحريرياً مشتركاً، يتمثل في محاولة كاتب تلك المذكرات التنصل من- أو تحمُّل- جزء صغير من المسؤولية إبان وجوده في السلطة، كأنه يجسد قول الشاعر الكبير وليام شكسبير:
"السمعة أكثر الخدع زيفاً وبطلاناً، فهي كثيراً ما تُكتسب دون وجه حق
وتُفقد دون حق"
أي إننا أمام حالة إنسانية ترمي بثقل تجربتها بين ضفتى كتاب ولكنها تتجمل وتكذب أحياناً، وتذبح آخرين؛ في محاولة للنجاة من مقصلة التاريخ. كل هذا تحت تصور خاص لكاتب تلك المذكرات عن شكل سمعته الشخصية التي يريد من قارئ مذكراته أن تلصق في ذهنه عنه.
ولهذا تجد مذكرات نهاية الحقبة التاريخية مع خلع الملك فاروق وبداية حقبة جديدة مع ثورة يوليو/تموز 1952، ومذكرات نهاية شرعية ومشروع يوليو/تموز وبداية شرعية أكتوبر/تشرين الأول، تجدها مذكرات مليئة بأناس يحاولون تجميل سمعتهم الشخصية أكثر من قول الحقيقة ونقلها للمجتمع.
مذكرات "مرتضى المراغي باشا" آخر وزير داخلية في عهد الملك فاروق والتي تعتبر من أهم المذكرات الشخصية التي تعبّر عن نهاية حقبة تاريخية حساسة وتحوُّل مصر من النظام الملكي إلى الجمهورية. وتنبع أهميتها أيضاً من تولي المراغي نفسه شؤون وزارتي الداخلية والحربية معاً بأمر شخصي من الملك فاروق. ومع أن المذكرات تحمل عنوان "شاهد على حكم فاروق"، فإنها لا تحمل حقائق كاملة ولكن محاولات ترميم سمعة شخصية. فقد ألصق وزير داخلية الملك فاروق كل نقيصة بالملك، بدءاً من نزواته النسائية. كما احتلت جزءاً كبيراً من مذكراته، قصةُ السيدة التي حكمت مصر بعد أن سيطرت على عقل الملك وأصبحت تتصرف كما تشاء، وأحال المراغي سبب سقوط عرش فاروق إليها، مؤكداً أنها كانت تكرهه- أي المراغي- وجعلت الملك يكرهه؛ مما تسبب في زيادة تغلغل تنظيم الضباط الأحرار في الجيش، وغلّ يديه عن الوقوف ضد هذا التنظيم. بل إنه أدان الجميع وجعل من نفسه شهيد الواجب تجاه الملكية في حريق القاهرة 1952. وأدان الملكَ نفسه بأنه مدبِّر الحريق، بمساعدة ضباط من الجيش وقطاعات من العمال والطلبة.
لم يَسلم أحدُّ من التقريع واللوم وإلقاء المسؤولية في المذكرات إلا كاتبها. وتنتهي مذكرات المراغي باشا دون تأصيل تاريخي دقيق لنهاية حقبة مهمة في تاريخ مصر وبداية أخرى. ولكنها تنتهي، بالطبع، بتحسُّن سمعة كاتبها وتبرئة ذمته من أي نقيصة. يخرج المراغي من مذكراتها رجلاً شريفاً حاول الإصلاح والإنقاذ ما استطاع، وفعل المستحيل من أجل ملكه وسط غابة من الفُسَّاد ما عداه.
وهكذا ضاعت الحقيقة التي كنا ننتظرها من آخر وزير جمع بين وزارتي الداخلية والحربية، تحت وطأة محاولته تحسين سمعته. وضاعت معها شهادة مفصلية بين حقبتين تاريخيتين.
الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية وقت اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، كتب هو الآخر مذكراته التي عنونها "مذكرات حرب أكتوبر". ومع الأهمية الكبيرة لشخصية الشاذلي القائد المنتصر، تصبح تلك المذكرات أهم حكم على نهاية مرحلة الناصرية وبداية مرحلة الساداتية أو نهاية شرعية يوليو وحلول شرعية أكتوبر مكانها.
وعلى طول السرد الممتع للمذكرات لكيفية الاستعداد لمعركة تحرير الأرض بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، نستطيع أن نلمح رؤية متكاملة لقائد كبير يستعرض مجهودات مصر للتغلب على المصاعب التي تقابلها من أجل تحرير الأرض. ونراه يعطى الجميع حقه في الترتيب للمعركة القادمة. حتى يقع القائد المنتصر في ثغرة السمعة ورؤيته الخاصة لها، في عيون الأجيال القادمة. فنراه يقزِّم من دور الفريق أحمد إسماعيل وزير الدفاع آنذاك، ويهاجمه بعبارات توحي بضعف قدراته وتبعيته المطلقة للرئيس أنور السادات؛ وذلك لخلاف قديم بينهما. حتى يصفه قائلاً: "أعتقد أن أحمد إسماعيل كان أقرب إلى أن يكون دُمية في يد السادات من أن يكون شريكاً معه في اتخاذ القرارات المهمة".
حتى إنه بعد بداية الحرب بأيام حدثت الثغرة الشهيرة التي كادت تطيح بنصر أكتوبر العظيم، فجعل من تلك الثغرة معركته الخاصة داخل حرب، وراح يكيل الاتهامات للجميع وأولهم الرئيس السادات ووزير دفاعه. ولكن الأمر الأبرز في ذلك الخلاف بين الشاذلي والسادات وأحمد إسماعيل، هو أن الشاذلي كان معزولاً تماماً عن الشق السياسي في الحرب. وأظن أن هذا بدا واضحاً عندما خرج من الخدمة العسكرية مهزوماً أمام السادات وأحمد إسماعيل. فبدأ يعامل السادات كفرد عادي وليس كرئيس دولة في مذكراته، وربما ذلك بسبب عدم تكريم السادات له، "ولكي يثير السادات الشكوك حول مسؤولية الثغرة، فإن اسمي لم يُذكر بين أسماء القادة الذي جرى تكريمهم في مجلس الشعب وسُلمت إليهم الأنواط والأوسمة، ولكن بينما السادات -وأقول السادات وليس مصر- تعمَّد إسقاط دوري في حرب أكتوبر، فإن العرب بصفة عامة وسوريا بصفة خاصة، أخذوا يشيدون بالنصر الذي قمت به في الحرب".
وعندما استدعاه السادات لترضيته، وذكّره برفضه تلقي الوسام الخاص به من أحمد إسماعيل، فذكر الشاذلي أن سبب الرفض نابع من عدم حبه لأحمد إسماعيل، لخلافات سابقة. ثم بعدها زاد الشرخ بينهما وأصبح الشاذلي عدواً صريحاً للرئيس السادات حتى حُكم عليه قضائياً بإفشائه أسراراً عسكرية.
لكن الفريق الشاذلي لم يترك الفترة الناصرية تذهب بغير إبراز قدراته في محاولة تغيير ما أفسدته، وجعل من الصاروخين الباليستيين "القاهر والظافر" منصة للحكم على جمال عبدالناصر، مؤكداً أنه يجب على الشعب أن يعرف الحقائق عن الدعاية الكاذبة والأموال التي صُرفت على مشاريع فاشلة، يعلم هو أكثر من غيره أنها كانت مشاريع في طور التطوير، وبشهادة منه أن صاروخ "الظافر" كان أكثر دقة من "القاهر"، وهو ما جعله يستخدمه في الحرب.
المذكرات التاريخية في مصر لا تسمن ولا تغني من جوع، فمحاولات "تلميع" شخصية كاتبها تغلب على محاولات التأريخ الجادة، لتغيب الحقائق تحت ثقل الروايات المتضاربة لها.
ولهذا أدعو كل من يقرأ مذكرات الساسة أو القادة العسكريين إلى عدم الحكم على التاريخ المصري من خلالها، خصوصاً إذا كانت تفتقر إلى التوثيق الكامل من شهود ووثائق رسمية، وتذكّر أن من يكتب تلك المذكرات إنسان يخاف على سمعته الشخصية وصورته أمام ذويه وبقية الناس؛ ولهذا نادراً ما ستجد إنساناً يخطئ نفسه في مذكراته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.