يمكن اعتبار المقابلة التي أجراها رئيس الحكومة السابق وزعيم تيار المستقبل سعد الحريري الخميس الماضي في الشكل أنها حجز لمقعد الحضور السياسي وتثبيت فكرة أنه الأقوى في طائفته حسب المتعارف عليه لبنانياً في ظل عودة المكونات اللبنانية خلف متاريس طوائفها، لكنها في المضمون إطلاق النسخة المستحدثة من سعد الحريري الناقم الممتعض الخائف من كل ما جرى في محطات سياسية وشخصية كانت الأقسى في تاريخ السنية اللبنانية، خلع الرجل كل العباءات وتمسك بحبل المبادرة الفرنسية التي صرعت في مهدها بسبب تمسك الثنائي الشيعي -حزب الله وحركة أمل- بحقيبة المالية والتي باتت عرفاً متعارفاً عليه لتثبيت صيغة التوقيع الثالث على محاضر وقرارات مجلس الوزراء اللبناني، بين كل جملة وجملة كانت عبارة "المبادرة الماكرونية" تستبق أي كلمة أو حرف، يسعى الحريري للقول إن المبادرة الفرنسية هي حبل النجاة للجميع، لكنها في الحقيقة حبل النجاة الشخصي للحريري حصراً، لا يعول حزب الله كثيراً على خارطة ماكرون، فهو ينتظر نتائج الانتخابات الأمريكية ليبنى على الشيء مقتضاه بين واشنطن وطهران، وإذا كان حزب الله سيتنازل فالأوْلى أن يقدم تنازله قرباناً لأي اتفاق أمريكي – إيراني يتضمن الحفاظ على الرأس والجسد والدور والمهمة، وأن مبادرة ماكرون على أهميتها لكنها هدية مجانية لماكرون المأزوم في الشرق والغرب.
الحريري الجديد.. وداعاً للسعودية مع بن سلمان
حاول مراراً الإعلامي مارسيل غانم إخراج المواقف من الحريري حول السعودية والعرب، لكن الرجل كان حريصاً على عدم الرد أو التلميح، جلَّ ما سعى لقوله إن المزايدين عليه في بيئته لا يملكون مشروعاً وتشغلهم قوى خارجية لإحداث فتنة مذهبية، وإنه الوحيد القادر على لجم هؤلاء في البيئة التي يمثلها، لم يخجل الحريري من تلميحاته حول "القوى الخارجية التي تشغل هؤلاء"، الكل في لبنان بات على علم بمن يلعب ويدير هذه الحالات التنافسية مع سعد الحريري، خطابهم بات مكشوفاً، والشاشات التي تصدرهم معروفة المالك والممول، بحسب مصادر متابعة لما تحضره أبوظبي والرياض في لبنان عبر خلق حالات سنية متعددة متنازعة فيما بينها، من المفكر رضوان السيد وإطلاقه لمبادرة نخبوية للحفاظ على السّنَّة وتكريس المد العربي ومواجهة تركيا والإخوان المسلمين، إلى نهاد المشنوق الحالم الدائم برئاسة الحكومة ومهما كلف الأمر، ولو كان الثمن الإطاحة بسعد الحريري الذي صنع منه وزير داخلية ونائباً عن بيروت، وليس انتهاء بشقيق الحريري بهاء الذي تسوِّقه الإمارات عند السعوديين وتروِّج له في إعلامها ومنصاتها وتقدم الدعم لمنتدياته الناشئة على تطويق تيار المستقبل ومحاولة وراثة الإرث الحريري .
الحريري وواشنطن.. لا تكامل مع السعودية
كل تلك الممارسات لا تخفى على سعد الحريري ولا تنطلي عليه، وبات يمسك خيوطها ويعرف مكامن الخلل فيها، يسعى الحريري الجديد للقول إنه عصيّ على الإلغاء والتشتت، وإنه ومن سابع المستحيلات أن يغلق بيته السياسي على وقع الحصار الذي يضربه من كل حدب وصوب، لأنه وباختصار يدرك معنى الاغتيال السياسي الذي يبقي الجسد ويلغي المكانة، وبعيداً عن رفض الرياض الدائم له بالتأكيد لكل من دقوا أبواب السعودية يتوسطون لسعد، كان الجواب أن ملف سعد الحريري طُويَ وإلى غير رجعة، لكن وفي هذا التوقيت الغامض لن يخرج ابن رفيق الحريري ليعلن أنه عائد للمشهد، وأنه مرشح حتمي لرئاسة الحكومة "دون منَّة من أحد"، إلا بضمانات أمريكية لم يخفها الحريري حين قال لغانم: "مين قلك إنو الأمريكان ضدي"، ليس سهلاً قول هذا التعبير لولا حصول الرجل على غطاء أمريكي بالتحرك لتشكيل حكومة "مهمات" مدتها بين 6 أشهر وسنة، لوضع لبنان على سكة واضحة من الإصلاحات المطالب بها منذ عقود في قطاعات الكهرباء والاتصالات وأضف إليها ملف التنقيب عن الغاز في المتوسط.
يدرك الأمريكيون أن السعودية بزعامة ولي عهدها الشاب المتهور باتت تمثل عبئاً على واشنطن، وتحديداً على إدارة ترامب، الذي يخوض معركة انتخابية ضد بايدن، حيث يستخدم الأخير ورقة السعودية كضغط مستمر على ترامب في هذه المرحلة المفصلية، آخر فنون محمد بن سلمان هي محاولة تصفية سعد الجبري، وقبلها اغتيال جمال خاشقجي وتقطيعه وحرقه، وقبيل ذلك أيضاً أزمة سعد الحريري واحتجازه في الرياض، وفرض ورقة الاستقالة عليه، وربما كان مصير الحريري شبيهاً بمصير جمال خاشقجي لولا العناية الإلهية والدور الفرنسي والضغط التركي على ترامب، لذا فإن واشنطن غير متحمسة مع الرياض لإلغاء دور سعد الحريري لصالح زعامات كرتونية، وخصوصاً أن السعودية مع الأمير الشاب طالبت مراراً بخلق قوة ردع سنية عسكرية لمواجهة حزب الله، وناقشت هذا المقترح مع العديد من الزعامات والتيارات السنية، على رأسها تيار المستقبل والجماعة الإسلامية، وكان الجواب الدائم هو رفض زج لبنان في صراع ميداني سُني شيعي سيُحقق ما يتمناه حزب الله، وعاقبت المملكة حينها الجماعة بإقصائها عن المشهد البرلماني، وأكملت عقوباتها على سعد الحريري برفض دعمه، وخلق حالات سنية في بيئته تمارس المزايدة عليه.
الحريري وتركيا.. تواصُل حذِر
في ضوء الصراع الفرنسي-التركي والعربي مع أنقرة، يبدو الحريري حذراً من لعب أوراق سياسية مع تركيا المرحِّب الدائم به، هذا الترحيب حتماً انعكس على تعاطي أنقرة في المشهد اللبناني، وحرصها المستمر على إبقاء تواصلها الرسمي مع الحريري، كان آخره اللقاء الإعلامي الذي عقده السفير التركي في بيروت هاكان تشانكل، مع الصحفيين، للتأكيد على أن تركيا لا تدعم شقيق الحريري بهاء ولا أي مكون لبناني، وأنها حاضرة في لبنان فقط عبر قنواتها الدبلوماسية والإغاثية والتنموية بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية، لذا فإن الحريري يود استمرار العلاقة دون إحراج مع البيئة العربية الممتعضة من تركيا وفرنسا التي تقود معركة وجودية مع أنقرة في المتوسط.
يصرح الحريري لزوّاره أن شعبية تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان باتت أمراً واقعاً في البيئة السنية المتعطشة لزعامة جاذبة جسّدتها أنقرة مع حزب الله والتنمية ونموذج الصعود السياسي والاقتصادي، ويردد دائماً أن صراعات اليوم قد تتحول لصداقات وتحالفات، فلماذا عليه خوض معركة عن طرف دون آخر، فيما حلولُ تلك الصراعاتِ قد تُولَد في لحظات، وتنتهي العداوة لتصبح صداقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.