أزمة فرنسا الداخلية ما هي إلا نتيجة سياسات حكوماتها المتتالية، فلا اليمين ولا اليسار ولا الوسط المنشق عنهما ولا التكنوقراطيون فلحوا في إخراجها من الأزمة.
الفرق الشاسع بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة واختفاء الطبقة الوسطى، غلاء المعيشة وارتفاع نسب البطالة، وكثرة الجرائم بدافع ديني أو نفسي أو مادي، وارتفاع الضغط في المجتمع، بسبب خطاب الكراهية الذي يروج له حزب اليمين المتطرف، وحزب اليمين منذ عهد ساركوزي الذي تبنى خطاباً معادياً للمهاجرين؛ في محاولة منه لكسب أصوات اليمين المتطرف، وقد نجح في ذلك، لكن المجتمع خسر جو السلام والأمان الذي تحس به في البلدان الغربية التي لم تستعمل ورقة الإسلام للفوز في الانتخابات وتغطية فشل تنفيذ البرامج الانتخابية.
فرنسا حضارة عريقة؛ بنية تحتية رهيبة، ومؤسسات منظمة، لكن هذه الإنجازات ليست صناعة اليوم؛ بل هي إرث ورثته فرنسا ولم تستطع المحافظة عليه، كما لم تحافظ على إرث قانون 1905 (قانون العلمانية) الذي اقترحه "أريستد بريان" على البرلمان، ودافع عنه لحماية المواطنين باختلاف معتقداتهم وضمان حريتهم في ممارسة شعائرهم دون تدخل الدولة في معتقداتهم.
ماكرون بخطابه المهاجم للإسلام يحاول أن يسير على خطى ساركوزي في خطة كسب أصوات اليمين المتطرف، ضارباً بقانون العلمانية عرض الحائط. هو الآن يحاول أن يغير النقاش من فشله في تسيير أزمة السترات الصفراء وتلبية مطالب الشعب وقتها وفشله في تسيير أزمة كورونا مباشرة بعدها، إلى مسألة الإسلام.
أتذكر، الشهر الماضي، عندما اتصلت بي مخرجة الفيلم الوثائقي التي تتتبَّعني فيه، لتحكي قصة امرأة محجبة تعيش في بلد يعلن جهراً عداءه للإسلام ويتخذ سياسيوه حجابها ورقة سياسية رابحة، طلبت مني إجراء حوار قبل سفرٍ علمت أنه سيأخذ مني أشهراً عديدة، أثناء تحضير الكاميرات ومعدات الصوت سألتني: برأيك، ما سبب تركيز ماكرون على الحجاب؟
أجبتها يومها جواباً لم أجرؤ على قوله أمام الكاميرا، لكنني لربما أذكره في التصوير المقبل، المهم أن جوابي كان: بالمغرب عندما يقْدمون على ختان طفل يشيرون إلى السماء قائلين له: انظر الحمامة، وما إن ينظر حتى يكون المقص قد قضى مهمته، تاركاً المجال لصراخ الطفل الذي يكون غالباً مزيجاً بين ألم ضربة المقص واحتجاجاً على غدر الأحباب، ولربما أصغرهم سنّاً ندماً على عدم رؤية الحمامة، أنهيت جوابي فرأيتها مندهشة تبحث في جوابي ذاك عن جواب، لمحت زوجها الذي يعمل معها مصوراً يضحك وهو يثبّت إنارة قوية أعلم أنها ستكون مصدر إزعاج لي طوال التصوير.
رجعت بنظري إلى صديقتي المخرجة وقلت لها: الحمامة معروفة، هي المرأة المحجبة أتركك تخمّنين من يتم ختانه، لم أتمم حديثي فقد فهم من في الغرفة أن الذي يتم ختانه هو الشعب الفرنسي برمَّته.
انتابني بعدها شعور بالندم والحياء، بسبب جرأتي التي أعلم أنها نتيجة الضغوط التي عشتها منذ عشرين سنة في بلد معظم سياسييه ماكرين خبيثين ومعظم شعبه ساذج، الفريق الأول يكذب والفريق الثاني يصدّق ويهلل، الفريق الأول يشير إلى الإسلام محوِّلاً أنظار الشعب عن المشاكل الحقيقية التي تعانيها فرنسا، والفريق الثاني يصدِّق ويفتح النقاش في الفضاء العام وعلى بلاتوهات التلفزيون وبأمواج الإذاعات، فتبدأ الكذبة تكبر وتتضخم حتى تغطي على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعانيها فرنسا.
أما الأزمة التي تسببت فيها فرنسا وما زالت تتسبب بها في الدول التي استعمرتها عسكرياً سابقاً، وما زالت تستعمرها اقتصادياً وسياسياً وثقافياً حالياً، وأتذكر هنا جملة قالها لي السيد زياد تاقي الدين الذي كان له دور مهم في عقد صفقات عديدة بين فرنسا وبعض دول إفريقيا والخليج، بعد الانتهاء من تصوير فيلم تحقيقي عن ليبيا، قال لي يومها: من بين الدول الاستعمارية فرنسا هي الأبشع، تستغل وتدمر وتستنزف الدول التي استعمرتها إلى اليوم (كأنها تنتقم منها لذنب ارتكبته).
تمعنت في حديثه جيداً وبدأت أتذكر حوارات دارت بيني وبين رجال أعمال وسياسيين من دول إفريقية، غنية في الحقيقة بالثروات وفقيرة في الواقع، دول غنية فقيرة في تناقض لا تجده إلا في الدول التي ما زالت فرنسا تسيّرها من وراء الكواليس.
فرنسا كبنية تحتية لا تضيف شيئاً يُذكر، هي فقط تحاول أن ترمم ما بناه سلفها وبدأ الزمن يحفر فيه، وأخلاقياً دخلت مرحلة هدم ما بناه سلفها من مفكرين وسياسيين ثاروا ضد استغلال الشعب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.