على النقيض التام من مناظرة ترامب وبايدن قبل نحو 10 أيام، كان الأمريكيون على موعد مع مناورة عقلية في صورة مواجهة سياسية كلاسيكية في شكلها، واستثنائية في توقيتها، وذلك في المناظرة التي انتهت مساء أمس بتوقيت الولايات المتحدة الأمريكية بين مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي والسيناتور كامالا هاريس، المرشحة على منصب نائب الرئيس على بطاقة بايدن.
وجاءت المناظرة لتعكس الفارق الكبير بين أداء رجلين يمثلان شيخوخة المنظومة الأمريكية وكل ما هو خروج عن المألوف في مناسبات كهذه، وبين اثنين ينتميان بعمق إلى المؤسساتية الأمريكية بشكلها الكلاسيكي، مع لمسات حداثية نظراً لصغر عمريهما بالنظر إلى رئيسيهما وتنوع خبراتهما خلال تاريخهما المهني، وهو ما يُفسر الأداء المتقارب لكل منهما خلال المناظرة التي أعادت هيبة المناظرات التقليدية، القائمة على المناورات العقلية مع الحسم في الإدارة، والتي مثلتها الصحفية المخضرمة سوزان بيج من صحيفة "يو إس تودي".
ومَثَّلَ كلا الطرفين بشكل حقيقي الطرف الذي ينتمي إليه، سواء على مستوى اليمين المحافظ في حالة بنس، أو اليسار الديمقراطي التقليدي في حالة هاريس. وأثبت كلاهما أنه مناور جيد، واستطاع كل منهما قلب الطاولة في بعض النقاط، في حين فشلا أيضاً في الإجابة عن سؤالين أو ثلاثة.
وربما كانت اللحظة الاستثنائية التي تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية على مستويات عدة، والتي عكس قدر كبير منها مشاهد المناظرة السابقة، هو ما جعل هذه المناظرة استثنائية بدورها، على عكس أي مناظرة بين نواب المرشحين للرئاسة في الظروف العادية. فحالة الاستثناء لا تأتي فقط من دخول رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للمستشفى وخضوعه للعلاج والمراقبة الصحية حتى بعد خروجه من المستشفى، مع تشكك كبير في قدرات بايدن الصحية على مستوى إدارة العمل اليومي، ناهيك عن الاستمرار في منصبه، بل تمتد هذه الحالة لمسألة الإغلاق الاقتصادي مع تصاعد حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي، واتساع دائرة الاستعداد للعنف السياسي والاجتماعي.
كل هذا دفع الغالبية من الناس للنظر إليها بوصفها مناظرة بين الرئيسين المحتملين على المدى القريب أو المتوسط، فهما الأكثر نشاطاً، ويعكسان فكرة الرئيس المحتمل بعد كل من بايدن العجوز وترامب المريض في أذهان الناس.
استراتيجية المواجهة
بالنظر لتفاصيل المناظرة فإن الاستراتيجية العامة لهاريس كانت التركيز على كلمة "القيادة" ككلمة محورية، إما كمنطلق للهجوم على إدارة ترامب باعتبارها فاقدة لمقوماتها أو عجزها عن تمثيلها، أو كونها القيمة العُليا المجردة التي ستقدم حال فاز بايدن وفريقه. أما بنس فكان تركيزه منصباً على كلمات محورية في ختام أغلب تعليقاته تدور حول اهتمام ترامب بالأمريكيين، وأنه أثبت أولوية أمريكا لديه بشكل عملي.
وكانت لغة الجسد حاضرة في صراعهما، حيث كشفت أن كلا الطرفين لا يركن إلى التلقائية التي صبغت مناظرة بايدن وترامب الأولى. فبنس كان متحفظاً بشدة في حركته، ولم تخرج عنه أي حركة انفعالية أو عصبية، ورغم أن هاريس حاولت إحراجه مرات متعددة حينما قالت له بحزم "أنا أتكلم" بشكل لافت، إلا أنه كان صاحب ثبات انفعالي حقيقي. وحين كان يعترض على شيء تقوله، كان يكتفي بالقول "هذا غير حقيقي". أما هاريس فكان أقصى ما استخدمته كسلاح في حرب لغة الجسد بينهما هو الابتسامة الساخرة من أي شيء ترفضه، أو النبرة الحازمة التي تمتاز بها في التأكيد والاعتراض، وتعكس قوة في المواجهة المباشرة.
وقد تعمقت هذه المناظرة في الشؤون الخارجية، والتي برعت فيها هاريس بحكم عملها في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، وهو ما مكنها من أن تكون لها اليد العليا في المناظرة، خاصة في مسألة التدخل الروسي في الانتخابات السابقة ومسألة إلغاء الاتفاق النووي الإيراني، وهما أمران لم يستطع أن يقدم بنس فيهما ردوداً متماسكة، هذا بعكس مسألة العلاقات مع الصين، وعلاقات أمريكا مع حلفائها، حيث شهدا شداً وجذباً بشكل أكبر وإن كانت هاريس أفضل حالاً، ما اضطر بنس للجوء إلى مسألة نقل السفارة الأمريكية للقدس وقتل البغدادي وقاسم سليماني كدليل على النجاح.
إلا أن الصراع المحتدم بشكل أكبر كان على مستوى قضيتي الضرائب والرعاية الصحية، واللتين استدعتا بدورهما قضيتي فيروس كورونا والاقتصاد. وفشل بنس في تبرير عدم السيطرة على فيروس كورونا، بحيث جعل أمريكا أكثر الدول الغنية إصابة بالفيروس، في حين فخر بنس بالتحسن الاقتصادي قبل الفيروس، عاجزاً عن تقديم إجابة واضحة عن البديل بعد إلغاء برنامج الرعاية الصحية "أوباما كير" الذي هاجمه بشدة.
ولم تكن هاريس موفقة في الرد على الأسئلة الخاصة بالمحكمة الدستورية العليا، ومسألة تعيين قاضية محافظة فيها قبل الانتخابات، ولم تستطع الرد على اتهام "بتعبئة المحكمة الدستورية العليا"، أي الرغبة في زيادة عدد أعضائها من أجل فرض توازن بين التقدميين والمحافظين بين أعضائها.
وكانت هاريس في أغلب الوقت قائدة للهجوم، لكن بنس استطاع المناورة وامتصاص طاقة الهجوم وتحويل مساره، كما فعل في رده على قضية تهرب ترامب من الضرائب، أو عنف الشرطة في التعامل مع الأمريكيين من أصل إفريقي، وهي النقطة التي هاجم فيها هاريس بشكل شخصي على تاريخها في العمل القضائي في كاليفورنيا، واتهم فيها الديمقراطيين بالرغبة في تقويض الشرطة.
ولم يذهب بنس بعيداً عن ردود ترامب في مسألة الاعتراف بنتيجة الانتخابات القادمة حال فشلا فيها، ورفض إعطاء ردود جازمة فيها، مثيراً نفس الشكوك حول تزوير محتمل، نتيجة التوسع في التصويت بالبريد، متجنباً الحديث عن دوره في هذه الحالة، وهي النقطة التي تجنبت الخوض فيها هاريس أيضاً، من زاوية رد فعلها العملي هي وبايدن على رفض تسليم السلطة.
نبرة الاستعلاء كانت إحدى الأدوات الناعمة في المناظرة، فقد استخدمتها هاريس عند الحديث عن المناخ والبيئة، متهمة الجمهوريين وإدارة ترامب بأنهم لا يهتمون بالعلم ويعادونه، في حين استخدمها بنس في الجانب الديني عند الحديث عن قضية الإجهاض وتعيين القاضية المتدينة إيمي باريت في المحكمة الدستورية.
على أية حال، فإن هذه المناظرة ستفرض تحدياً كبيراً بين ترامب وبايدن في مناظرتهما المتوقعة، وكذلك على المحاور القادم يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، حال تمت بالفعل، بعد رفض ترامب قرار لجنة المناظرة بإجرائها عن بعد لدواعي الأمان الصحي.
لكن الظاهر في الأمر أن هذه المناظرة بالتأكيد رفعت من شعبية كل من بنس وهاريس، ليس بين أنصارهما، لكن أيضاً مقارنة بأداء بايدن وترامب، فالمعركة كانت حول "ظل الرئيس" وليس مجرد نواب تقليديين، فكل شيء في أمريكا أصبح استثنائياً هذه الأيام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.