لو كانت الأيام القليلة الماضية في السياسة الأمريكية عبارة عن مسرحية، لاعتقد المرء أن سير أحداثها وحبكتها أشطح من أن يُصدَّق. لدينا مجموعة من الشخصيات اجتمعت لخيانة الرغبة الأخيرة لقاضية بالمحكمة العليا أوصت بعدم ترشيح خليفة لها إلا بعد الانتخابات الرئاسية، لكن وبعد مجرد أيام قلائل من وفاتها، اجتمعت تلك الشخصيات في حديقة الورود بالبيت الأبيض، ليتبادلوا التحدث بطريقة حميمة فيما بينهم، ويميل كل منهم إلى مساحة الآخر الشخصية للتهامس، وبعضهم الآخر يحتضن ويقبل ويتبادل تحايا المحبة والتودد. أشياء جعلت الأمر برمته يبدو وكأنه ليس فعالية سياسية، بل احتفال بنصرٍ مظفَّر من نوع ما.
أخذ أعضاء من الدائرة المقربة من دونالد ترامب يطوفون بين أركان الحفل دون بادرة خوف أو قلق، يكرّمون مرشحته للمحكمة العليا إيمي كوني باريت، فيما تنسال الأريحية ومشاعر البهجة الطيبة من زمرة يبدو عليها التحرر من أي قيود تتعلق بالمساءلة العامة أو الارتياب الأخلاقي. فقد ماتت روث بيدر غينسبرغ، وهم الآن سيدفعون قدماً بمرشحهم بصرف النظر عن أي شيء وكل شيء. وحتى الوباء الذي ما انفك يجتاح البلاد فيما وراء الأحاسيس الممتعة التي أثارها اجتماعهم في حديقة الورود، لم يكن مصدر قلق أو انشغال لهم.
لكن الحبكة كان لها أن تحمل تطوراً مفاجئاً آخر. فبعد هذه الفعالية بأيام، ثبتت إصابة الرئيس الأمريكي ترامب وسبعة آخرين على الأقل من الحاضرين بفيروس كورونا. وهكذا نُقل ترامب وشخص آخر، كريس كريستي، إلى المستشفى، فيما لاتزال الإصابات تظهر بين موظفي البيت الأبيض الآخرين، ويستمر أفراد من الدائرة المقربة من دونالد ترامب في الإبلاغ عن نتائج إيجابية. لقد وصلت الجائحة، التي لطالما استخف بها ترامب وهوّن من شأنها، وصلت أخيراً إلى عتبة أقوى رجل في العالم.
لسنا معتادين أن يلقى ترامب أي عاقبة على أفعاله. فقد كانت رئاسته حتى الآن أمثولة في اللامبالاة –من جانب الحزب الجمهوري وطيف أنصاره الأوسع نطاقاً في جميع أنحاء البلاد- تجاه أي من أفعاله، مهما كانت غير أخلاقية أو غير نزيهة أو غير كفؤة أو حتى غير قانونية. ومع ذلك، فإن التطور الأخير جاء أشبه بعقاب ديني من نوع ما على تلك الغطرسة التي طفحت من فعالية حديقة الورود؛ الفرعون الذي اعتقد أنه إله وتباهى بإفلاته من عاقبة أفعاله، حلَّ به الوباء عقوبة له.
ومع ذلك، فلا شيء من هذا يأتي كعقاب خارق للطبيعة، إنها محض النتيجة المنطقية القاسية. هناك سبب لاستسلام بوريس جونسون لفيروس كورونا على هذا النحو، بعد أيام قليلة من تفاخره بمصافحة "الجميع" خلال زيارة للمستشفى. هناك منطق وراء إصابة ترامب بعد أيام من حضوره فعالية تجاهل الحضور فيه جميع قواعد السلامة. فقوانين الطبيعة لم يوقفها أحد، ولايزال الواقع موجوداً، ويواكب بسرعة قضائه دونالد ترامب.
هناك كثير مما يستطيع الرئيس الأمريكي وحزبه القيام به عندما يتعلق الأمر بليّ الحقائق، لكن وجهه الشاحب المنهك وهو يظهر بمقطع الفيديو من المستشفى كان دليلاً على حدود قدرته على فعل ذلك.
ورغم ذلك، سيستمر ترامب في الادعاء بقدرته على تجاوز هذه الحدود. لكن يخرج ترامب أو حزبه بدرسٍ ما من هذه اللحظة. لن يبدي تواضع أو رزانة ولا بالطبع لياقة في قادم أموره. لا احترام لشعب شهد معاناة مئات الآلاف من الوفيات تحت حكم رئيس سخر ووبخ هؤلاء الذين يرتدون أقنعة، وآخرهم منافسه الرئاسي خلال مناظرة متلفزة، فقط يوم الثلاثاء الماضي 29 سبتمبر/أيلول.
وهكذا، وقبل أربعة أسابيع فحسب من الانتخابات الرئاسية – التي تتطلب تواصلاً محكماً وتنسيقاً وثيقاً بين البيت الأبيض والطاقم الطبي لترامب- سيّرت الإدارة الأمريكية أمورها على طريقة الأنظمة الاستبدادية، ولجأت إلى تصوير ترامب وهو يوقع أوراقاً بيضاء لإعطاء الانطباع بأنه مستمر في القيام بمهام عمله.
ترامب نفسه، حتى وهو واقع في هم ضيق أنفاسه، أخذ يستعرض للمشاهدين كيف أن قراره بمغادرة البيت الأبيض والذهاب إلى المستشفى جاء لأن هذا ما يفعله الزعيم العظيم، قائلاً: "لا يمكن أن أظل محبوساً في غرفة بالطابق العلوي وأن أكون آمناً تماماً".
ومع أن هذه اللحظة كان يجب أن تكون دعوة استيقاظ من الغفلة لهذه الإدارة: فرصة لرسم مسار تصحيحي في طريقة التعامل مع الوباء، فإن واقع الأمور يشهد بألا فرصة لحدوث ذلك. ففي حال تجاوز ترامب المرض، فسوف يستغل هو ومؤيدوه تعافيه لخدمة مزيدٍ من الدعاية والترويج لقوته وقدرته على تجاوز الشدائد والتكيف معها، أو سيستخدم عودته كذخيرة لإثبات أن فيروس كورونا ليس إلا تهديداً مبالغاً فيه بالفعل.
سيجد ترامب طريقة لاستخدام إصابته بالفيروس سلاحاً ضد جو بايدن، وقد يدعي أن بايدن رجل هش لا يعرف كيف يشعر الأمريكيون، لأنه ظل منعزلاً بعيداً، في مأمن من الفيروس، مختبئاً وراء قناعه. وستُعاد صياغة قصة إصابة ترامب بالمرض، الذي أصيب به نتيجة لإهماله وغروره، لتصبح دليلاً يرفعه على كونه رجلاً من الناس العاديين، الذين اختلطوا مع الجماهير لدرجة أنه هو نفسه وقع ضحية للفيروس.
أما إذا ساءت حالة ترامب الصحية، فتوقع موسماً لا ينتهي من نظريات المؤامرة، وأزمة ديمقراطية محتملة. فهذه ليست إدارة قادرة على التصرف بطريقة جيدة في أوقات الاستقرار، فما بالك بأوقات الأزمات. وإذا نظرنا إلى أن هذا حزب هدد رئيسه بالفعل بعدم مغادرة البيت الأبيض في حالة خسارته للانتخابات، فإن المتوقع أن يكون هناك مزيد من المحاولات لتعقيد المسار الطبيعي للأمور: فالمخاطر كبيرة جداً والزمن المتبقي ليوم الاقتراع أقصر من أن يضيع نفساً واحداً على التواضع وإعادة النظر فيما حدث.
وبدلاً من حساب عدد القتلى الأمريكيين غير المسبوق عبر تاريخ البلاد، وحقيقة أن الرئيس نفسه تعرض للخطر بسبب التعامل الهش الكارثي مع الوباء، فإن شجاراً قبيحاً سيندلع على من يستغل ما حدث لصالحه إلى أقصى حد. وهكذا سيصعد الحزب متسلقاً جثث الموتى لتأمين مصالحه، تماماً كما فعل مع وفاة غينسبرغ.
غير أنه، ومهما كانت المكاسب قصيرة المدى التي سيؤمّنها الاستغلال الانتهازي لمرض ترامب له ولحزبه، فإن الأيام القليلة الماضية تذكيرٌ لا شك فيه بأن هناك بعض الأشياء التي لا يمكن الوصول إليها، وأن هناك بعض الجرائم التي لا يمكن تجاوزها. إن إخفاقات دونالد ترامب الفادحة فيما يتعلق بقيادته للبلاد، وتواطؤ الجمهوريين على تلك الإخفاقات، ستلحق بهم وتُحاسبهم مهما طال المطاف. وعلى الرغم من كل تلك الأكاذيب، فإن الحقيقة ستنتصر في النهاية.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.