في ظل المناخ السياسي العربي المضطرب، وحالة الاستقطاب الشديدة، كان من المُستغرَب أن ترى الرأي العام العربي ينعى أمير الكويت الشيخ "صباح الأحمد الجابر الصباح" بالكلمات ذاتها، فلم تطفُ إلى السطح تلك القضايا الخلافية التي تُصاحب وفاة كبار الشخصيات السياسية، وإنما اتفقت معظم الآراء (بمختلف اتجاهاتها السياسية) على حسن سيرة وسياسة الأمير الراحل.
لم تتأسس جل هذه الآراء على تحليل المسيرة السياسية الطويلة للأمير الراحل، وإنما عُنيت بمتغير واحد فقط، وركزت على فعل سياسي واحد، وهو رفض الأمير صباح الأحمد للتطبيع مع إسرائيل، خاصةً في ظل موجة التطبيع الخليجي-الإسرائيلي الأخيرة، وما أثير بشأن ضغوط ترامب لدفع الكويت في المسار ذاته.
ورغم أهمية هذا الموقف، خاصة في ظل المتغيرات الراهنة، فإنه من المثير للدهشة أن أهم ما يتذكره الرأي العام العربي لحاكم وسياسي امتدت فترة عمله لحوالي 60 عاماً، موقف سياسي كُنّا نعده منذ سنوات أمراً بديهياً وثابتاً ضمن ثوابت السياسة العربية، على الأقل على المستوى العلني.
وعلى كل حال، فإن مسيرة السياسة الخارجية للأمير الراحل كانت مسيرة حافلة، ويمكن القول إنها كانت استثنائية إذا ما قُورنت بتطور السياسات العربية من حوله عبر هذه العقود، لذلك من المنطقي أن تطفو الشكوك بعد وفاته حول مستقبل السياسة الخارجية الكويتية.
مسيرة من الحياد الإيجابي
قضى الأمير الراحل حوالي ثُلثي عمره في العمل السياسي، فبعد استقلال الكويت عام 1961، تولى صباح الأحمد مباشرةً وزارة الخارجية عام 1962، واستمر بها حوالي 40 عاماً، ثم تولى رئاسة الوزراء عام 2003، في سابقة هي الأولى في تاريخ الكويت، حيث كان ولي العهد يتولى بالضرورة منصب رئيس الوزراء، لكن صباح تولى رئاسة الوزراء دون أن يكون ولي العهد حينئذ.
منحه هذا المنصب الكثير من الثقل السياسي في الداخل، وهو ما مكّنه من إدارة المداولات العائلية والبرلمانية ليبرز كخليفة لـ"جابر الأحمد"، ويصبح الأمير الـ15 للكويت في عام 2006، بعدما صوّت البرلمان المنتخب لصالح إعفاء الشيخ "سعد العبدالله السالم" من مهامه، بعد أيام فقط من تعيينه أميراً للبلاد بسبب مخاوف على وضعه الصحي.
استطاع صباح الأحمد عبر مسيرته السياسية تشكيل علاقات خارجية جيدة وموثوقة مع الحُكّام العرب ومع الأنظمة الغربية، وعُرف كونه وسيطاً موثوقاً من قبل الدول الإقليمية والمجتمع الدولي. وصار يُلقّب بـ"عميد الدبلوماسية" و"حكيم العرب". وينظر إليه على أنه "مهندس" السياسة الخارجية الحديثة لدولة الكويت.
استطاع صباح أن يحافظ على علاقات جيدة مع مجموعة كبيرة من الدول، وأن يُحقّق التوازن ما بين القوى العظمى وبين تأييد الحركات العربية وحركات عدم الانحياز. واحتفظت وزارة الخارجية الكويتية في عهده ببعثات خارجية مكثفة مقارنة بحجمها، بينما تدعم في الوقت نفسه الدول الأجنبية للإبقاء على سفاراتها في الكويت.
وعُرفت الدبلوماسية الكويتية في عهده بمبدأ "الحياد الإيجابي"، ولعب دور الوساطة في النزاعات، وسمح هذا التوجه للبلاد بأن تحظى بعلاقات طيبة مع جيرانها ومع دول العالم، حتى إنها تصنف ضمن الدول التي لها دور بارز على المستوى الدولي فيما يتعلق بسياسة الحياد وتصفير المشكلات.
ورغم إيمان الصباح بالتهديد الإيراني لمصالح المنطقة، ودول الخليج تحديداً، فإنه حرص ألا تصل علاقته مع طهران إلى حد التوتر، ورغم حالة التقلب والصعود والهبوط في العلاقات بين البلدين في مرحلة ما بعد الربيع العربي، فإنه كان حريصاً دائماً على فتح قنوات اتصال مع طهران، وترك ممرات للعودة والتفاهم. حيث سافر شخصياً إلى إيران في عام 2014، وأطلق حواراً معها في عام 2017. وفي عام 2016 بعد الاعتداء على سفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد (ما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية من قبل الجانب السعودي وبعض الدول الخليجية)، اكتفت الكويت باستدعاء السفير الإيراني، وتقديم مذكرة احتجاج شديد اللهجة له.
وخلال الأزمة الخليجية لم تنحز الكويت لأيٍّ من أطراف الأزمة، رغم قربها السياسي من المعسكر السعودي-الإماراتي، وحاولت تقريب وجهات النظر، ولعب دور الوساطة. وما يعود بالأساس إلى رؤية الصباح بأن هذه الأزمة كفيلة بزعزعة استقرار "مجلس التعاون الخليجي"، والذي كان يراه الأمير الراحل أحد أهم منجزات السياسة الخارجية الكويتية، وأحد أركان أمنها الإقليمي.
أمّا في اليمن، فقد شهدت سياسة الكويت عدة تحولات، حيث كان الأمير صباح يرى في استيلاء الحوثيين على صنعاء تأكيداً خطيراً على النفوذ الإيراني في شبه الجزيرة العربية يجب مواجهته، ناهيك عن احتمالات تعطيل الحوثيين لطرق تصدير النفط الخليجي. لذلك أيّدت الكويت الحملة العسكرية السعودية (عاصفة الحزم) على اليمن عام 2015، بل وساهمت عسكرياً بـ15 طائرة مقاتلة.
ولكن مع استمرار الحرب دون أن يحقق السعوديون أهدافهم في اليمن، أصبح دور الكويت في الصراع أكثر دبلوماسية وأقل عسكرية، فبدلاً من التركيز على مساعدة السعوديين في تحقيق نصر عسكري، والذي تضاءلت آفاقه إلى حد كبير على مر السنين، فضّلت الكويت أن تكون بمثابة قوة من أجل "خفض التصعيد والحوار وبناء الثقة والدبلوماسية في اليمن". وهو ما تجلى عام 2016 عندما استضافت الحكومة الكويتية محادثات شاملة لحل الأزمة اليمنية بمشاركة ممثلين عن الحوثيين.
والخلاصة أن الأمير الراحل استطاع التعامل مع "الخصم الإيراني" دون تحدي السعودية أو الإمارات العربية المتحدة.
وقد استخدم الصباح الأدوات الاقتصادية كمُعزز لسياسته الخارجية، حيث أنفقت الكويت بسخاء سنوياً على المساعدات الخارجية إلى دول العالم النامي والمناطق الفقيرة العربية وغير العربية، حيث تجاوز حجم إجمالي المساعدات والإعانات الخارجية التي قدمتها الكويت إلى دول العالم نحو 1.8 مليار دينار كويتي خلال السنوات العشر الماضية (2008/ 2009 إلى 2018/ 2019)، بمتوسط سنوي 180 مليون دينار كويتي، وارتفعت نسبة المساعدات الكويتية التنموية إلى دول العالم من متوسط 1.5% من دخلها القومي الإجمالي (في الفترة بين 1973 و2008) إلى 4.5% (في الفترة بين 2008 إلى 2019). ويعتبر الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية الذي تأسس عام 1961 هو ذراع التنمية الخارجية في الكويت.
أمّا بخصوص القضية الفلسطينية واتفاقات التطبيع الخليجية-الإسرائيلية، فيمكن القول إن الكويت تاريخياً كانت إحدى أهم الدول المناصرة للقضية الفلسطينية، والرافضة للتطبيع العلني والسري مع إسرائيل، ورغم استمرار هذه السياسة حتى آخر أيام الأمير الراحل فإنها لم تستطع تحدي اتفاقيات التطبيع الخليجية، واكتفت بالصمت، الذي يعبر عن الرفض الضمني.
استمرارية السياسة الخارجية الكويتية
بعد وفاة الأمير صباح الأحمد مباشرةً، أعلن مجلس الوزراء الكويتي اختيار ولي العهد الشيخ "نواف الأحمد الصباح" (83 عاماً)، أميراً للبلاد، وهو أخو الأمير السابق، وولي العهد منذ عام 2006. ورغم أن عمله السياسي بدأ في الستينات فإنه ظل محصوراً في المجال الأمني والعسكري، ما بين وزارة الداخلية ووزارة الدفاع والحرس الوطني.
ومن الواضح أن الأمير الجديد يفتقد إلى الخبرة الدبلوماسية التي تمتع بها أخوه، ومن المُرجّح أنه ليس على نفس القدر من المهارة التفاوضية، لذلك من غير المتوقع أن يستمر دور الكويت الريادي في ملفات المنطقة، خاصة في الملف الإيراني واليمني، وربما يعصف فيروس كورونا بالأدوات الاقتصادية لسياسة الكويت الخارجية (المنح والمساعدات الخارجية).
ولكن هذا لا يعني أن الأمير الجديد سيحيد عن الخط التاريخي للسياسة الخارجية الكويتية، فهو مَنْ ظلّ ولياً للعهد وشاهداً على سياسات أخيه، كما أنه لا يملك مواقف تاريخية مُحددة تجاه قضايا بعينها.
لذلك من الواضح أن الكويت ستسير في سياستها الخارجية بنفس الطريقة، وستكون حذرة في أي تغيرات يمكن أن تحدث، ولن يكون هناك أي تغيير جذري، وحتى لو كان سيحدث تغيير مستقبلي فسوف يأخذ وقتاً طويلاً، خاصةً في وجود حياة برلمانية كويتية ومؤسسات سياسية تساهم في عملية صنع القرار.
وبسبب خصوصية ملف الأزمة الخليجية ربما يضع الأمير الجديد ضمن أولويات أجندته الخارجية استمرار الوساطة بين طرفي الأزمة، بالنظر إلى أهمية هذا الملف بالنسبة للكويت، ولكن ربما تتأخر تحركات الكويت في هذا الشأن، حتى تعيد الدولة ترتيب أمورها الداخلية، وتستقر شؤون الحكم.
وكذلك من غير المتوقع أن يُغيّر الأمير الجديد من موقف بلاده تجاه قضية التطبيع مع إسرائيل، ولكن التحدي الحقيقي هو مدى قدرته على مواجهة الضغوط الأمريكية في هذا الشأن، إذا ما أُعيد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى.
التخوّف الحقيقي من تغير السياسة الخارجية الكويتية يأتي من خليفة الأمير الجديد، فمن المفترض أن يقوم الأمير بتسمية ولي عهد جديد له، وتدور الترشيحات بين 4 أسماء، هم: الشيخ "ناصر صباح الأحمد"، النجل الأكبر للأمير الراحل، ويبلغ من العمر 72 عاماً. والشيخ "أحمد الفهد الصباح" ابن أخي الأمير الراحل، والنجل الأكبر للشيخ فهد الأحمد الجابر الصباح. والشيخ "محمد صباح السالم الصباح" نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الكويتي السابق، ويبلغ من العمر 65 عاماً. والشيخ "ناصر المحمد الأحمد الصباح" رئيس مجلس الوزراء الكويتي سابقاً، ويبلغ من العمر 80 عاماً.
أحد هذه الشخصيات، وربما شخصٌ آخر سيصبح أمير الكويت في المستقبل، وربما يتكرر سيناريو الأمير الراحل (صباح الأحمد)، فيتم تنحية الأمير الجديد ويتولى أحد هذه الشخصيات مقاليد الحكم، حينئذ قد نشهد تحولات حقيقية في السياسة الخارجية الكويتية.
بالتأكيد لا نعلم هوية الأمير اللاحق للأمير نوّاف، ولا نعلم توجهات سياسته الخارجية، ولكن من الممكن أن تُمثِّل ضغوط التحالف السعودي-الإماراتي، وضغوط ترامب (إذا ما أُعيد انتخابه) عاملاً مؤثراً في تغيير ملامح السياسة الخارجية الكويتية، والانتقال من مرحلة الوساطة والحياد الإيجابي إلى سياسة التحالفات والاستقطابات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.