يؤكد بيان عمان (24 سبتمبر/أيلول) لاجتماع وزراء الخارجية لكل من الأردن ومصر وفرنسا وألمانيا أنّ "حل الدولتين" هو مفتاح الحلّ للقضية الفلسطينية، وانتقاد المستوطنات غير القانونية، والتمسك بالقرارات الدولية فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي، والحفاظ على الوضع الحالي للأماكن المقدسة في فلسطين… إلخ.
لم ينتقد الإعلان اتفاقيات التطبيع، التي عُقدت بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، لكنّه استدرك بالقول إنّه يأمل أن تُسهم في دفع مسيرة السلام، من جهة، وطالب بما يتجاوز تجميد قرار ضم الأغوار والمستوطنات إلى إلغائه، وهو جزء من صفقة القرن والوعود الأمريكية لإسرائيل.
ما الرسائل السياسية الجوهرية من وراء بيان عمّان؟
البيان -بالضرورة- يقع ضمن جهود ماراثونية يقوم بها وزير الخارجية الأردني للتأكيد على إبقاء حل الدولتين على قيد الحياة، في مواجهة مشروع "كوشنر"، الذي يريد استبدال ما يسميه بـ"السلام الإقليمي" (مع الدول العربية والخليج بخاصة؛ الإمارات والبحرين، وربما لاحقاً عمان) عن تحقيق تسوية سلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بعد أن رفضت السلطة صفقة القرن، ودخلت في صدام سياسي مع الإدارة الأمريكية الحالية.
يبدو أن الدبلوماسية الأردنية اختارت ما يطلق عليه في عمّان البديل الثالث، فالخيار الأول هو التمسك برفض صفقة القرن وعمليات التطبيع التي تجري، التي ينظر إليها الفلسطينيون بوصفها التفافاً خطيراً على القرارات الدولية ومبادرة السلام العربية، بل وتضحية بالقضية الفلسطينية ومركزيتها لصالح ملفات أخرى.
والخيار الثاني الترحيب بالاتفاقيات الجديدة، والتطبيع الإقليمي، بوصفه بوابة السلام في المنطقة، وإدماج إسرائيل فيها، ما يعني بالضرورة -ضمنياً- القبول بصفقة القرن، والتخلي عن الفلسطينيين، والانجرار وراء مشروع كوشنر الذي يسرّع عملية "إنهاء القضية".
بحسبة المصالح الوطنية الأردنية، فإنّ الخيار الأول يعني الاصطفاف مباشرة في مواجهة حلفاء الأردن التقليديين: أمريكا والسعودية والإمارات، والانفكاك عن مصر (التي رحبت بتلك الاتفاقيات العربية)، من دون وجود البديل في منظور صانع القرار الأردني، الذي لا يرى بديلاً في إيران أو تركيا، ويأخذ مساعدات كبيرة من الولايات المتحدة الأمريكية، ولديه مصالح اقتصادية استراتيجية مع السعودية والإمارات، ستتضرر بشدة من هذا الخيار، في ظل أزمة اقتصادية شديدة.
الخيار الثاني ليس أقل ضرراً على الصعيد الوطني الاستراتيجي، ويتعارض مع تعريف الأردن لمصالحه الاستراتيجية بإقامة دولة فلسطينية، وبالنظر إلى الأبعاد الداخلية السياسية والشعبية للقضية الفلسطينية في الأردن.
إذاً يحاول الأردن اجتراح بديل آخر يوازن بين التأكيد على المواقف الثابتة والمبدئية في القضية الفلسطينية مع محاولة عدم خسارة الحلفاء العرب -في الحدّ الأدنى- والحفاظ على موقف أوروبي (ألمانيا وفرنسا) مؤيّد لإبقاء حل الدولتين على قيد الحياة.
دبلوماسياً قد لا نبالغ بالقول إنّ هذا أقصى مدى يمكن أن تصل إليه الدبلوماسية الأردنية في الحفاظ على "حل الدولتين" ضمن المعطيات الراهنة، دولياً وإقليمياً، مع انهيار العمق العربي للأردن والفلسطينيين، والتحولات الجيواستراتيجية الكبيرة في المنطقة، مع الأخذ بعين الاعتبار -وهذا أيضاً مهم- أنّ هنالك "مربعاً استراتيجياً" لا يغادره صانع القرار في عمان، يتمثل في العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية الحليفين التاريخيين.
لكن في المقابل هل هذه الرسائل الدبلوماسية والمحاولات الأردنية تُجدي نفعاً على أرض الواقع، وعلى ماذا يراهن صانع القرار في عمّان؟
الرهان الأردني الرئيسي على 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، هو مفصلي إلى درجة كبيرة، ليس فقط على صعيد القضية الفلسطينية، بل حتى المصالح الاستراتيجية الوطنية الأردنية التي ترتبط بقدرة الأردن على التخفيف من الضغوط الأمريكية فيما يتعلق بالموقف من صفقة القرن والتطبيع العربي – الإسرائيلي، وبقاء الأردن على خط دعم الفلسطينيين في هذا الوقت الصعب.
في حال نجح ترامب في البقاء في البيت الأبيض فهو السيناريو الأسوأ، بمثابة كابوس للأردن، للتعامل مع استحقاقات وضغوط صعبة، بخاصة ما يتعلّق بمستقبل السلطة الفلسطينية، والضغوط الأمريكية السريّة لإنهاء السلطة أو استعادة ما يسمى بـ"الحل الأردني"، في الضفة الغربية، وهو الخيار الذي أخبر الأردن الإدارة الأميركية برفضه بالمطلق له.
سيناريو بقاء ترامب يعني أنّ الأردن عليه أن يختار بين البقاء على خط الدبلوماسية الحالي أو أن يخفف كثيراً من جهوده ويحاول البحث عن بدائل أو مساحات جديدة للمناورة، وستكون أكثر محدودية وضيقاً من الوضع الراهن.
في المقابل، لا يعني فشل ترامب ووصول بايدن إلى موقع القيادة انتهاء الأزمة الأردنية أو الخروج من المأزق، فما قامت به إدارة الرئيس ترامب من تخريب في ملف القضية الفلسطينية يصعب استدراكه، ومن غير المتوقع العودة عن صفقة القرن بالكلية، أو عما تم تقديمه للإسرائيليين على صعيد السفارة وقرار الضم، ولن تتراجع الدول العربية التي وقَّعت على التطبيع عن مواقفها، ما يعني بالحدّ الأعلى للأردن تخفيف الضغط وفرصة أكبر للمناورة في حل الدولتين.
أيّاً كان الفائز أو الخاسر في الانتخابات الأمريكية فإنّ هنالك حقائق ووقائع مقلقة جداً على الأرض يصعب تجاوزها، تتمثّل في غياب أفق التسوية السلمية (مع عدم وجود طرف إسرائيلي اليوم يؤمن بحل الدولتين وفق القرارات الدولية)، والتسارع على الأرض في الاستيطان والضم وإلغاء الحقوق الفلسطينية، وتآكل قوة السلطة الفلسطينية وقدرتها على الاستمرار وفق المعادلات الحالية، في ضوء ذلك فإنّ السؤال المسكوت عنه: ما خيارات الأردن؟ هل ينتقل الحديث فعلاً إلى "الحقوق" الفلسطينية بدلاً من "حل الدولتين"؟ وهو أمر لا يزال مرفوضاً عموماً لدى الرأي العام الأردني، وإذا كان ذلك غير مطروح فما هو البديل أو الخيار الآخر؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.