تنطوي الأحاديث الدارجة عن نشوء محاور سياسية في المنطقة، على وجاهتها، وخطورة تداعياتها السياسية الآنية والاستراتيجية، على تسرّع وتبسيط، وهي لا تخلو من توظيفات سياسية. ويمكن إحالة ذلك إلى أسباب عديدة، لعل أهمها:
أولاً، إن تلك المحاور هي أقرب إلى الاصطفاف السياسي، وإن غالبيتها تقوم على الاتباع والتوظيف، بمعنى أنها ليست محاور بمعنى الكلمة، لا سيما أن الأطراف المشكلة لها لا تنطلق من إدراك حقيقي لمصالحها الاستراتيجية أو المستقبلية، كدولة أو كمجتمع، أو كفاعل سياسي لذاته.
ثانياً، في مجمل الحالات فإن الأقطاب أو الفواعل الأساسية في تشكل تلك المحاور أو الاصطفافات هي الأطراف الإقليمية، أي تركيا وإيران وإسرائيل، بمعنى أنه لا يوجد محور عربي في ذاته ولذاته، مع ملاحظة التداخل، أو التقاطع، بين الفواعل المذكورين، إلى هذه الدرجة أو تلك، لا سيما بين إيران من جهة وتركيا من جهة أخرى.
ثالثاً، المشكلة أن مجمل الأطراف تبدو في وضع صعب، وأن الولايات المتحدة، في معظم الحالات، تتحكم بشروط اللعبة، أي توزيع التناقضات (بحسب تعبير لبريجنسكي) وتالياً لذلك إدارة الصراعات، وتحديد الجوائز، سواء تعلق بالفواعل الإقليميين، وحتى إزاء روسيا، التي تسعى إلى القبض على أكثر من ورقة في المنطقة لتعزيز موقفها التفاوضي إزاء الولايات المتحدة.
رابعاً، واضح من كل ما يجري أن شعب فلسطين هو الأكثر خسارة من حال التناقضات الحاصلة في العالم العربي، وأن إسرائيل هي الأكثر استفادة، مما يجري، في كل ما يتعلق بالمحاور الثلاثة، والتداعيات الناجمة عنها.
على أية حال، فإن ذلك الوضع ليس غريباً عن المنطقة العربية التي تعاني من ضعف الاستقرار منذ عقود، والتي عانت حراكات شعبية وحروباً أهلية طوال العقد الماضي، بيد أن الجديد في هذه المرة يتمثل، أولاً، بتصدّع النظام العربي، حتى أكثر من فترة ما بعد عقد اتفاقية كامب ديفيد (1979) بين مصر وإسرائيل، وأكثر من الفترة التي أعقبت احتلال عراق (نظام صدام) للكويت، وحرب الخليج الثانية (مطلع التسعينيات). وثانياً، بتحول إسرائيل كي تكون طرفاً في الاستقطابات والصراعات الدائرة في المنطقة، إلى جانب دول عربية ضد أخرى. ثالثاً، تراجع البعد الفلسطيني في سلم أولويات العالم العربي، بالقياس للسابق، سواء كان ذلك عملياً أو نظرياً، سيان أكان الأمر نتيجة ظهور تحديات خارجية أو داخلية، وهو ما تمثل في اللامبالاة التي بدت في اجتماع جامعة الدول العربية مؤخراً لمشروع القرار الفلسطيني، المندد بالتطبيع الإماراتي مع إسرائيل.
قبل أكثر من ربع قرن صدر للأكاديمي المصري فوزي منصور كتاب عن "الدولة والأمة في الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي"، عنوانه: "خروج العرب من التاريخ" (1993)، وهو عنوان معبر ومؤلم، وقبله بسنوات كان الروائي الراحل عبدالرحمن منيف أصدر خماسيته الروائية: "مدن الملح"، وربما يلخص العنوانان الانهيارات في العالم العربي، لا سيما في منطقة المشرق من لبنان إلى العراق وصولاً إلى اليمن، وقبل قرابة ثلاثة عقود نشر برهان غليون، الأكاديمي السوري، كتاباً عنوانه: "المحنة العربية: الدولة ضد الأمة"، في حين صدر للأكاديمي الكويتي كتابه: "الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر"، والكتابان يتحدثان عن واقع الأنظمة التسلطية والاستبدادية في العالم العربية. أيضاً، كنا شهدنا في الألفية الجديدة صدور تقارير "التنمية الإنسانية العربية"، كتقارير دورية عن الأمم المتحدة، التي تم التحذير فيها من نواقص أساسية يعاني منها العالم العربي، وضمنها: نقض الحرية ونقص تمكين المرأة ونقص المعرفة ونقص التنمية، وثمة إصدارات عديدة في هذا المجال؛ وطبعاَ الحديث يطول عن إصدارات أخرى كثيرة لمراكز أبحاث وجامعات ودور نشر ومجلات دورية متخصصة.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن ثمة مشكلات كثيرة وعميقة يعاني منها العالم العربي، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وبيئية وأمنية، ويأتي ضمنها انكشافه وهشاشته إزاء التدخلات الخارجية، ناهيك عن ضعف مبناه، وتفرق أحواله، وهو أمر يعود، فوق كل ما تقدم، إلى نقص تمكين الدولة، ونقص تمكين المواطنة، مع افتقاده للدولة بمعنى الكلمة، كدولة مؤسسات وقانون، لصالح السلطة، وافتقاده لمفهوم حقوق المواطن في الدستور، وهنا مكمن العطب فيه، ومكمن افتقاده للحصانة إزاء الفاعلين الدوليين والإقليميين، ومكمن افتقاده للفاعلية التي تتناسب مع حجمه وإمكانياته.
وعلى أية حال فقد نجم عن كل ذلك اندلاع ثورات "الربيع العربي"، كما شهدنا، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ثم في موجة ثانية في العراق ولبنان والجزائر والسودان، كتعبير طبيعي عن الاحتقان، وفقدان الأمل، في المجتمعات العربية.
الواقع الجديد الذي يتشكل في الواقع العربي يطرح العديد من الأسئلة، ضمنها، ما هو شكل النظام العربي القادم؟ ثم ما هو المدى الذي ستصل إليه مستويات التطبيع مع إسرائيل؟ وكيف سيؤثر ذلك على إسرائيل، وعلى العالم العربية، وعلى علاقات الأنظمة العربية مع بعضها ومع جوارها؟ وأخيراً، إلى متى ستبقى البلدان العربية تفتقر إلى الدولة والمواطنة، أي رهينة سلطات لا يهمها إلا الحفاظ على أنظمتها، ولو كان ذلك على حساب مواطنيها؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.