مطلع سبتمبر/أيلول الحالي، عاود المقاول المصريّ وشريك النظام سابقاً، محمد علي، تكثيف الظهور الإعلامي على مواقع التواصل الاجتماعي، مطالباً الجماهير بالنزول إلى الشارع، وتكرار محاولة الإطاحة بالسيسي، نظراً لاستمرار تدهور الأحوال المعيشيّة، وبقاء المشكلات الكبرى على حالها دون تغيير، مثل مشكلة سد النهضة الإثيوبي.
كان التقدير الأوَّليُّ، بناء علي وجهة نظر معينة، قبل أيام من ذكرى 20 سبتمبر/أيلول الذي يدعو محمد المصريين لإحيائها، أن اليوم سيمر دون ضجيج ملحوظ، ومع ذلك، كان رأيي أن اليوم نجح، حتى لو لم ينزل المصريون.
خذلني المصريون وغيري من المحبَطين، ونزلوا إلى الشارع بشكل ملحوظ ومشرِّف، وواجهوا الشرطة ببسالة في نقاط تجمع صغيرة بامتداد الجمهوريّة، مما زاد التقدير الأوَّليّ بنجاح اليوم نجاحاً.. ولكن لمَ كان الحكمُ بنجاح اليوم حتى لو لم يتظاهر المصريون؟
تراجع السيسي
لنتذكَّر سريعاً ما حدث العام الماضي في نفس هذا التوقيت. ظهر المقاول بشكل مفاجئ مخاطباً المصريين، ومقدماً سرديَّة متماسكة تضربُ جوهر مقولات السيسي الشخصيّة والعموميّة في مقتل.
تحدَّث المقاول الذي عمل مع الجيش لأكثر من عقد، عن فساد السيسي شخصياً، وعن مجاملته أصدقاءه بهدايا ملياريّة، وعن نفوذ عائلة الرئيس، وعن "السّبوبّة" الكامنة في قلب حضور المؤسسة العسكريّة بمشروعات المقاولات، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى خطيرة ذات بعد توثيقي لم ينتبه لها الكثيرون.
المُحصلة النهائيّة لهذه "الطلعات" كانت دفن وتفنيد المقولتين الرئيستين للسيسي منذ أن أطلّ على المصريين: نزاهته الشخصية، واستشعاره الحقيقة الموضوعية عن الوطن الفقير. فالسيسي بعد هذه المقاطع الموثَّقة بالخبرة والموضِع لم يعد نزيهاً، والوطن، إذا كان فقيراً في الموارد الطبيعية حقاً، فإن السيسي يبدِّد ثروته الحقيقية، البشر، بالفساد والاحتكار وسوء الإدارة وإشاعة الخوف في النفوس.
تفاعُل السيسي مع حملة المقاول في حينها كان تطبيقاً عملياً للفشل؛ فقد خالفَ التوصية الأمنية البيروقراطية بعدم الظهور، ولما ظهر بدا قلقاً، و"مخطوفاً" للمرة الأولى منذ أن عرفه المصريون. وعندما تحدّث، بدا أنه لا يمتلك سرديَّة متماسكة مقابلة لدعاوى المقاول: فإذا كان الوطن فقيراً، لم نبن قصوراً؟ وهل كون القصور ليست باسمك شخصياً، يعني عدم انتفاعك منها أو سوء إدارتك الماليّة لثروات البلاد؟
لعب السيسي حينها على توليد واستظهار أكثر من شعور متناقض، الثبات وعدم التراجع "أنتوا هتخوفوني ولا إيه؟ أنا هبني وهبني!"، والابتزاز العاطفي، كما فعل مبارك من قبل، عندما تحدّث عن مخاطرته بنفسه، وأسرته، والجيش في مشهد الثالث من يوليو/تموز 2013، حال فشلت خطته للإطاحة بالإخوان المسلمين من الحكم لأي سبب.
ولكن، في النهاية، كانتِ الموجة، لأوَّل مرة، أعلى من السيسي، الذي لم يعلق في ذهن المصريين من مشهد ظهوره إلا انصياعه لسطوة المقاول، والنزول من عليائه للرد عليه، بشكل أحبط حتى أنصاره، الذين انهاروا أمام نزول المصريين إلى الشارع:"انقذ مصر يا سيسي"، لنجد السيسي نفسه يتراجع أمام الموجة، متودداً للمصريين، بعودة الملايين لبطاقات الدعم العيني، وتخفيض أسعار الوقود، مع تغيّر عام في الخطاب السياسي الرسمي داخل البرلمان، ودعوات عاجلة للإحساس بمعاناة المواطنين.
فكان هذا التراجع المؤقت إعلاناً لهزيمة السيسي في هذه الجولة، وفشله في امتصاص غضب المصريين، أو ترويض المارد المصري المقيم في إسبانيا قبل فضحه وإحراقه، أو حتى الثبات على مقولاته السياسية التي صدَّعنا بها لـ6 أعوام، راحت هباءً من عمر الوطن.
التراجع مجدداً
ما الداعي لإعادة سرد ما حدث العام الماضي؟ السبب، أن ما حدث العام الماضي، تكرر بحذافيره هذا العام. ولكن الذي تغير أنه لم يقم أحد من خارج النظام بالكيد للسيسي أو التدبير لإطاحته، وإنما هو من حفر لنفسه الحفرة، وسقط فيها.
المُثير هذه المرَّة، بلغة علم النفس، لم يكن خارجياً، وإنما كان احتراقاً داخلياً وتآكلاً ذاتياً عبر ما يُعرف – كذباً – بقانون التصالح. يطرح بعض الأصدقاء سؤالاً يستبطن بين ثناياه إحساناً للظن في ذكاء السيسي وبصيرته، ويتعشّم في بعض العقلانية غير الظاهرة وراء هذا القانون: أليس من السهل أن يترك السيسي البناء عشوائياً على حاله، فتضيع مزيد من الموارد على الأنشطة الاجتماعية غير الرسمية، ونخسر مزيداً من أراضي الدولة والأرض الزراعية؛ مقابل أن يوفر الرجل على نفسه عناء الاصطدام بالناس؟
والإجابة، حتى يعلم حجمَ الاستطالة والبغي من لم يتابع الخط الزمني للأزمة، أن السيسي نجح فعلاً في السيطرة على البناء العشوائيّ في القاهرة الكبرى بشكل لافت منذ أزمة "كورونا" عبر قرار وقف كل أنواع البناء، عدا تلك المتعلقة بالأنشطة الرسمية، لمدة 6 أشهر، وإحالة كل المخالفين للنيابة العسكرية. وكان يمكن المضيّ في هذا المسار عبر إجبار كلّ الجمهوريّة تباعاً بتسجيل عقاراتهم بأنفسهم ضمن منظومة رقميّة موحّدة، كما يحبّ السيسي أن يعمل في كل الملفات، بالإضافة إلى تعطيل إجراءات ترفيق المباني الجديدة المخالفة من المنبع، بدلاً من تقنينها كما حدث في الماضي.
ولكن اتضح لاحقاً أن قرار وقف البناء، والانصياع له، كان مقدمةً لتفعيل قانون الجباية، الذي يجبر كلّ من بنى بناءً مخالفاً، ضمن تفاصيل فنية كثيرة، على دفع غرامة للدولة، مقابل ترك العقار وقاطنيه دون إزالة، وعدم تعرضهم للحبس؛ مما طرح أسئلة كثيرةً عن المالك الحقيقيّ للأرض بموجب العقد الاجتماعي، وحدود دور الدولة في تنظيم استغلال الأراضي، والعقاب المنتظَر لـ"حيتان" الأراضي من رجال الأعمال المقربين من السلطة الذين حصلوا على آلاف الكيلو مترات برخص التراب كما يقول المصريون، ومصير الأموال التي دفعها المخالفين للمحليات مقابل ترفيق عقاراتهم، وآلية التأكد من إنفاق عوائد التصالح على تنمية حقيقية للمجتمع، لا على قصور رئاسية جديدة؟
بدلاً من الإجابة على هذه الأسئلة المشروعة، أو مناقشتها وإيضاح كل نقطة منها على حدة بشفافية، فهذا دور الدولة، وهذا نصيب رجال الأعمال الكبار من سرقة الأراضي، وهذه الآلية صُممت لعقاب مسؤولي المحليات، أو لردعهم عن أي فساد مستقبلي؛ بدلاً من ذلك، خرج السيسي وسط حشد رجاله المعتاد، خلال افتتاح بعض المشروعات، ومعه خرائط القمر الصناعي ليُدين المجتمع مجدداً:"أعدى أعاديها"، ويأمر محمد زكي، قائد الجيش، بتجهيز المعدات الهندسية الجديدة، والاستعداد "لإبادة" كل مخالفات القرى، ومن جديد: كله من أجل الوطن.. أي وطن؟
أعطى السيسي للمواطنين مهلةً حتى نهاية سبتمبر/أيلول الحالي، عنوانها الدفع أو الهدم، وشرع بالفعل يُشرِّد بعض المواطنين من هنا وهناك كي يكونوا عبرةً لمن لا يعتبر، فبدا المواطنون ممن ينطبق عليهم القانون متوجسين. بعض الناس لا يمتلك قيمة التصالح أصلاً، وبعضهم يمتلك "تحويشة" بسيطة للزمن لتأمين الأبناء يأبى أن يمنحها للصٍ يجلس على كرسي الرئاسة، فبدأت المقاطعُ المصورة تنهال على مواقع التواصل من الريف والصعيد، رافضةً لهذه الجباية، متسائلةً عن منطقيِّتها في ظل وباء عالمي أنهك جيوب الجميع، ومستجيرةً بالجيش، وبالسيسي نفسه أحياناً، ومُهددة بالثورة.
التقارير الأمنية تتحدث عن غضب عارم غير مسبوق في أماكن طالما اتسمت بالهدوء المحبط، ومديرو الأمن عاجزون عن دخول بعض المناطق الشعبية وهدم بيوت المواطنين، رغم توبيخ السيسي وتهديداته لهم على الهواء، المقاول عاد من جديد محدداً يوماً معيناً للنزول وتأديب النظام، تقارير أخرى تتحدث عن اجتماعات لمرشح رئاسي سابق مع رجال أعمال نافذين لمناقشة الوضع الاجتماعي المتأزم، الاستعارات في خطاب الجماهير تتحدث عن مقاومة الاحتلال؛ فيتراجع السيسي مجدداً، بنفس الطريقة السابقة خلال العام الماضي: للخلف در!
بالرغم من سطوته وتجبره واستعداده للصدام، فإن السيسي يعلم جيداً أن الخطر الحقيقي الوحيد على "نظامه" الذي تصدّر لإنقاذه في الثالث من يوليو/تموز 2013، ليس الإخوان المسلمين، وليس الجماعات المسلحة، على العكس، إنه يحبّ هذه المواجهات، الّتي تُولِّد، حال الانتصار فيها شعوراً بالبطولية، وحال التراجع، شعوراً عاماً بالخوف والحاجة إلى الملاذ، وإدانةً للآخر المقامر المثير للفوضى من ناحية أخرى؛ يعلم أن الخطر الحقيقي من الجماهير. ولسوء تقديره، فإنه لا يفتأ التلويح بنقطة الضعف هذه: الخوف من الداخل.
فلمَّا استشعر السيسي صعوبة هذه الجولة، وفشل سرديِّته في دفع رجاله لأداء مهمتهم المطلوبة، ووعورة الأرض التي يدوس فيها هذه المرة؛ صدَّر السيسي رئيس وزرائه المهندم، المهندس صاحب الكلام المرتب، مصطفى مدبولي، ليُعدِّل خطابه المتهور، ويشطب على الصيغة السابقة للقانون، ويعلن "أوكازيون" تخفيضات غير مسبوق في سعر متر التصالح، قال عنه وائل قنديل ساخراً ما معناه: إن سعر المتر بات مرتبطاً بمقدار مقاومة المصريين للجرّافات.
وفيما يبدو، لم يبدِّد هذا التراجعُ الرسمي، الذي قوبل بإقبال ملحوظ من المواطنين على تقديم التصالح، مقارنةً بالإقبال قبل الأسعار الجديدة، خوفَ السيسي من تحرّك المصريين المفاجئ ضده، استجابةً لدعوة المقاول، فعادت من جديد مشاهدُ الذعر الأمني والهلع العام، من خلال غلق المقاهي خلال مباراة الأهلي التي كان يفترض أن تشهد إعلانه بطلاً للدوري، تماماً كما كانت الحال قبل دعوة المقاول العام الماضي، عندما زجّ النظام بالفنانين للرد على المقاول، في مشهد مزر كاشف عن الخوف من الجماهير.. لذلك، كان التقدير الأوَّليُّ بأن هذا اليوم نجح، حتى لو لم ينزل المصريون.
المستقبل
يتبقى سؤال: لماذا رجَّحتُ ألا ييستجيب المصريون لدعوات التظاهر التي كان مقرراً لها يوم الأحد، 20 سبتمبر/أيلول الحالي؟ والإجابة أن كثيراً من العوامل الثانوية المتزامنة مع دعوة المقاول العام الماضي التي شهدت غضباً شعبياً غير مألوف، مثل خروج السيسي من البلاد لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي اعتبره البعض حينها جزءاً من مشهد ساقته الأقدار لخروج آمن للقيادة السياسية من المشهد المتأزِّم، ونبوءة تدخل أحد الأجنحة المتصارعة مع السيسي لإسعاف المتظاهرين وترتيب إجراءات مشهد ما بعد رحيل السيسي؛ كلها عوامل مهمة لم تعد قائمة في المشهد الحالي.
وبالإضافة إلى اعتقال الآلاف في مظاهرات العام الماضي، في مشهد عينيّ لمآلات الخروج على النظام، وزوال فاعلية "المثير" الذي فجَّره محمد علي بتسريبات فساد العائلة الحاكمة بمرور الوقت؛ فمن المفترض أن السيسي كان قد تراجع قبل موعد المظاهرات بأيام عن لغة الخطاب العدائية تجاه المجتمع، وأعلن تعديلات جوهرية في طريقة تنفيذ قانون التصالح.
لذلك، وبكل المقاييس، يعد خروج المصريين، استجابةً لدعوة المقاول، مجدداً، ضد السيسي، من عدة نقاط جانبية بالقرى والمدن، مشتبكين مع الشرطة، وطاردين قواتها أحياناً، فضلاً عن كونه مفاجئاً؛ فإنه عمل بطوليٌ، يستحق التحية، ومن الواجب إدراك أنه، رغم تزامنه مع دعوة المقاول، فإنه متجاوزٌ له، ولغيره بالتأكيد، لأسباب تتعلَّق بمدى قدرة رمزية شخصية محمد علي على تثوير الناس ودفعهم للتضحية من منظور أخلاقي، وعدم جدارة معظم أشكال المعارضة المُتصدِّرة في الخارج.
هذه التظاهرات مرشحة للتجدد بشكل أشرس في الأيام المقبلة، على أساس بوادر فشل الشرطة في السيطرة عليها، هي وتلك التي اندلعت منذ أيام لمواجهة حملات الإزالة، وبالأخص مع بقاء أعداد ضخمة من المواطنين، تصل إلى حوالي نصف مليون شخص، يعولون بالطبع أعداداً أكبر، خارج دائرة "التصالح"، بالرغم من اقتراب انتهاء المهلة المحددة، مما يرفع من احتمالات الصدام الشعبي بين الأهالي وقوات إنفاذ القانون. السيسي في مأزق داخلي حقيقي، إما أن يتراجع أكثر، بمد مهلة التصالح، أو يثبت على موقفه في عدم مد المهلة، مكتفياً بالتيسيرات الأخيرة، ليُعجِّل بلقاء طالما عبَّر عن خشيته منه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.