لطالما تربع التونسيون على رأس قوائم الجهاديين الأجانب الملتحقين بالتنظيمات المسلحة في السنوات الأخيرة، واختلفت التقديرات العددية بشأنهم بين 3000 إلى 8000 جهادي. وبالرغم من أن فئة كبيرة منهم قتلت أثناء المعارك في سوريا وليبيا والعراق أساساً، فإن عدداً منهم عاد لتونس وجزءاً آخر لا يزال يقبع في سجون الحكومتين العراقية والليبية ومعتقلات النظام السوري. ويمثل هذا الموضوع قنبلة موقوتة لتونس في كل مرة يعود الحديث حوله، إذ إن الانطباع العام وردود الفعل الانفعالية حول مسألة رجوع الجهاديين عادة ما تكون عنيفة وغير مسؤولة.
إن تداول هذا الموضوع يتطلب قدراً كبيراً من الرصانة والاتزان والمسؤولية، إذ إن تونس وهي الدولة الوحيدة التي خرجت من الربيع العربي بأقل الأضرار، عليها أن تقدم مثالاً متحضراً في التعامل مع هذه الفئة من الناس، دون تشفّ وسوء معاملة، بل عليها أن تضرب مثلاً في احترام حقوق الإنسان، وهو ما يتماشى مع الانتقال الديمقراطي القائم في البلاد.
يجب على تونس أن تتحمل مسؤوليتها في إعادة من انضم من أبنائها للتنظيمات الجهادية، فالدول التي هم فيها ليست مطالبة بتحمل فشلها في الحفاظ على أبنائها، ثم إن إعادتهم لتونس الثورة تضمن لهم محاكمة عادلة فيها، في إطار سياسة إعادة التأهيل والإدماج التي سنتحدث عنها لاحقاً، ويبعدهم، من يدري، عن التشفي والانتقام منهم في تلكم الدول.
- إقرار سياسة إعادة تأهيل وإدماج
إن التفكير بعقلية الدولة التي يجب أن تحترم الفرد كإنسان، يحتم عليها إقرار سياسة إعادة تأهيل وإدماج تجاه العائدين من التنظيمات المسلحة، الهدف منها هو إنقاذ الأفراد من المحيط الذي كانوا يعيشون فيه ويتبنونه، ويمر ذلك حتماً عبر حسن اختيار هذه السياسة والمحاور المكونة لها والأطراف المتدخلة فيها.
لنتكلم بصراحة، إن من أكبر الأخطاء التي تقوم بها الدول في سياسة إعادة التأهيل، إن وجدت أصلاً، هي التركيز على الثقافة من جانبها الفني، أي السينما والغناء وغيرهما، إذ إن العائد من التنظيمات الجهادية عادة ما يرى الفنون على صيغتها الحالية كفراً وفسوقاً، ومواجهته بها لن يزيده إلا إصراراً على فكره وتوجهاته. لذلك، فإن أفضل طريقة تنطلق بها إعادة التأهيل هي إيكال الموضوع لجهة دينية معتبرة، تضع خطة ذات نفس طويل، تخاطب فيها العقول والقلوب، يتكلم فيها المنطق والحجاج، بعيداً عن سياسة الترهيب أو الانحلال وبعيداً عن المقاربة الأمنية الكارثية. ولتونس فرصة كبيرة في استغلال جامعة الزيتونة رفيعة العماد، في وضع أسس هذه السياسة الجديدة من بابها الديني، حيث تزخر الجامعة بعلماء ومشايخ لهم من الزاد المعرفي ما يواجهون به فكرياً العائدين من التنظيمات الجهادية. ولكي تكون سياسة إعادة التأهيل ناجحة، يجب أن يتدخل فيها علماء الاجتماع والإنسان والنفس والإجرام، فهم وحدهم من يمكنهم دراسة سلوكيات الأفراد والجماعات والتأثيرات المسلطة عليهم وطريقة تفكيرهم، وتفكيك كل هذا وتفسيره واقتراح كيفية معالجته.
- نجاح سياسة إعادة التأهيل مرتبط بالعدالة الاستثنائية
إن الدولة والمجتمع لا يمكنهما التعامل مع العائدين من التنظيمات المسلحة كأناس عاديين، لذلك لا يمكن أن يطبق عليهم القانون العادي السائر في البلاد، ومن أجل نجاح سياسة إعادة التأهيل والإدماج، على الدولة إقرار عدالة استثنائية تتوافق مع استثنائية الوضع، فلا يمكن لأحكام الإعدام والمؤبد والسجون الطويلة أن تتماشى مع سياسة إعادة التأهيل والإدماج، لأن الهدف من هذه الأخيرة هو الخروج بمواطنين يحترمون مواطنتهم، يتمتعون بحقوقهم ويمتثلون لواجباتهم، الأمر الذي يمكنهم من إعادة بناء حياتهم من جديد، بعيداً عن المرحلة التي مروا بها. الاستثناء في القانون ليس بدعة، حيث شهدت عدة دول في العالم استثناءات قانونية تستجيب لمقتضيات مرحلة ما، مثل قوانين العدالة الانتقالية، وتونس نفسها أقرت قانوناً للعدالة الانتقالية في 2013 يهتم بقضايا وملفات ما قبل الثورة.
- مقومات النجاح
مقومات نجاح سياسة إعادة التأهيل والإدماج هي:
- الدور المحوري للمؤسسة الدينية في التعامل مع القضايا الجهادية تحديداً.
- احترام دور العلوم الاجتماعية والإنسانية في فهم المشكلة وإيجاد الحل.
- الابتعاد جملة وتفصيلاً عن المقاربة الأمنية.
- إقرار عدالة استثنائية تعطي للعائد من التنظيمات المسلحة الأمل في الحرية دون قضاء عقوبة طويلة المدى.
- التخلي عن المؤسسات السجنية والتوجه نحو مراكز إعادة تأهيل، تحد من حرية التنقل ولكن تحترم حقوق الإنسان وتوفر وسائل إعادة التأهيل.
- أهمية إخراج المعني بالأمر من حالة الفقر (إن كان فيها) بإدماجه في الدراسة أو في التكوين المهني.
- متابعة حالة المعني بالأمر لمدة سنوات على الأقل بعد قضائه عقوبته وإدماجه في الحياة العامة.
إن بوصلة الدولة في هذا الموضوع بالذات هي مكانة الفرد واحترام إنسانيته، وذلك يمر حتماً عبر سياسة تأهيل وإدماج، تنقل العائد من التنظيمات المسلحة من حالة التوحش إلى حالة المواطنة. إن تونس وهي اليوم في مرحلة هامة من تاريخها، يجب أن تفكر جدياً في أن نجاح الانتقال الديمقراطي يمر أيضاً عبر التخلي عن المقاربة الأمنية في مكافحة التطرف، وإعطاء الأهمية المحورية لكرامة الإنسان، أياً كانت توجهاته أو طبيعته. هذا دور الدولة، وهذا سبب كينونتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.