إن وسائل التواصل الاجتماعي من أكثر الأدوات التي أحدثت تغيرات عميقة في التعاطي مع الأحداث والمستجدات السياسية، سواء على المستوى المحلي أو العالمي، والفيسبوك هو من أكثر منصات التواصل استخداماً في العالم العربي وقد اتسع المجال بعد الثورات العربية ليصبح منصة للتعبير وللكتابة ولصناعة الوعي.
في تونس، كل الأحداث السياسية والمستجدات في الساحة الوطنية تجد تفاعلاً كبيراً على منصة الفيسبوك، وعادة ما يكون التعاطي العام في اتجاه الانتقاد والسخرية وأحياناً كثيرة يكون بالسب والشتم، فمناخات التفاعل مع الشأن السياسي والوطني على هذه المنصة تزداد سوءاً بمرور الوقت. ربما هذا يعود للأداء المرتبك للنخبة السياسية حكماً ومعارضة، وقد يعكس كذلك حالة نفسية عامة يغشاها التوتر وعدم الثقة و"الإنهاك" من كل ما هو سياسي. هذا القول ينطبق على المتفاعل بلا خلفية فكرية أو انتماء حزبي، وينطبق كذلك على من هم جزء من أحزاب ولهم خلفيات فكرية وهنا تكمن معضلة كبيرة أصبحت تمثل خطراً على الفعل السياسي.
إذ إن تعاطي قواعد الأحزاب مع الأحداث السياسية أصبح بمثابة حروب افتراضية يدافع كل فيها عن رايته بما أوتي من أساليب وغالباً ما يكون الأسلوب متوتراً مُجرّداً من كل وازع أخلاقي وتغيب فيه الأفكار والمعاني وتحضر العصبية والاتباع الأعمى. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل أصبح يشارك في هذه الممارسات قيادات سياسية من أحزاب مختلفة ويسقطون في الاستفزاز والردود المُتشنّجة. هي إذن حالة توتر وتأهب مستمرة باتت تلوّث مناخات الفعل وتُشوّش على صناع الرأي والقرار بوضعهم دائماً في مربع المتوتّر المرتبك الذي ينساق لانفعالاته النفسية فتكون خياراته بعيدة عن حسن التقدير والمصلحة.
إن السياسة بما هي تقاطعات وتحالفات ومصالح مشتركة لا مكان فيها للقطعيّات بقدر ما تكون تقديراً وتقريباً وتوسيعاً. لذلك عندما يكون الخطاب السياسي مليئاً بالأحكام الجازمة والمحاكمات الأخلاقية للخصوم والوصم بما يسيء لهم، فإن الوعي العام سيتشكل على هذا النحو، فيصبح الخصم السياسي بمثابة العدو ونخرج من دائرة الاختلاف إلى دوائر الخلاف التي تعزز الفُرقة والتنافر. لم يتعلم السياسيون بكل أطيافهم التنسيب في خطاباتهم ومقاربة مواقفهم دون السقوط في الشتم أو الانتهازية.
ونتيجة لكل هذا أصبح التعاطي من عموم المتابعين مع الشأن العام خاضعاً أساساً لانفعالاتهم النفسية وحميتهم للأحزاب التي ينتمون إليها، فيصبح الفيسبوك حلبة للسب والشتم ووصم المختلف بأبشع النعوت دون الوقوف قليلاً وطرح سؤال: لماذا كل هذا؟
لستم بصدد الدفاع عن فكرة أو مبدأ بقدر ما أنتم تسيئون لأنفسكم أولاً ولأفكاركم ثانياً، فهذه المناخات تضيّق الفضاء الإفتراضي وتحوّله من فضاء التقاء أفكار ومعان إلى فضاء يفيض عنفاً وبذاءة. حرية التعبير مسؤولية وفرصة للحوار مع كل مُختلف، لذلك يجب أن نتعوّد على سماع أصوات أخرى تختلف عن أصواتنا وأن نتعلم البحث عن المشترك بهدف تأسيس قاعدة للحوار.
الاختلاف السياسي ليس اختلاف عقيدة، والتنافس فيه ليس تنافس خير وشر أو حق وباطل، هو اختلاف تقديرات للمصلحة حلُّه الحوار وخوض اللعبة السياسية باقتدار. المرتابون في أفكارهم والمرتبكون يلجأون دائماً للتهجّم على المُختلِفِ والنيل من شخصه. يقول الشاعر التونسي البحري العرفاوي: "لا تحُطُّوا من قدر منافسيكم في السياسة أو في الأدب أو في الرياضة، فلا يكون في فوزكم عليهم لا فخر ولا مجد ولا بطولة". يجب ألا نغترّ بالخطاب السياسي أو بالتوتر على الشاشات وأن نستوعب أن المشتركات التي بيننا تُبدّد كل اختلاف مهما كان عميقاً.
علينا أن نعي أن تدافعنا هو تدافع أفكار، وأن الحق مُوزّع بيننا كبشر بأقدار مختلفة، فليست الحقيقة شخصاً أو فكرة واحدة إنما هي حركة مستمرة للأفكار التي تتطوّر بوعي أصحابها ودرجة استعدادهم لتوسيع معرفتهم، فيصبح بذلك الهدف هو طلبنا للفكرة في ذاتها كحقيقة بعيداً عن الذاتيّة والانتصار للنفس الذي لا يؤدي سوى للخصومة، فالأفكار الجامدة تعكس جمود فكر أصحابها وكسل عقولهم فتستبدّ الفكرة بالشخص وتتحوّل إلى صنم يتّبعه الناس دون سؤال أو بحث.
انطلاقاً من هذه النقطة عالج الوحي الواقع وكان منهج الرُّسُل موجّهاً أساساً لهدم قوالب التفكير الجاهزة، إذ تم توجيه الناس نحو السؤال والاستشكال عما هو سائد وحامل لطابع القداسة للقطع مع وضعية الجمود وتحريك الوعي. و هذا ما جعل الرسالات السماوية المتتابعة تلقى صدّاً من الحكام وأصحاب النفوذ وكل من يستبدّ به الصنم – الصنم قد يكون فكرة أو حالة روحية أو شخصاً أو نظاماً – لأن الفكرة الجامدة لا يمكنها أن تستمر في ظل حركة الوعي الدائمة فهي فاقدة لوجاهتها ولصلاحيتها وبالتالي يلجأ أصحابها للتعصب وللشخصنة، ففكرتهم لا تحتوي على أدوات الدفاع عن نفسها في عالم الأفكار إنما تستمدّ شرعيّتها من فجوة الوعي لدى أصحابها.
أخيراً، أفكارنا التي نؤمن بها يجب أن نتوجّه بها للإنسان بما هو مزيج من المشاعر والانفعالات، فلا نتوجه إليه بما يسيئه فيمتنع بعد ذلك عن سماعنا وتعلو الحواجز النفسية بيننا وبين من خالفونا وخالفناهم، فالهدف الأساسي لكل صدّاعٍ برأيه بالحق وبالدليل هو تجسير العلاقات والبحث عن وسائل الإقناع التي تُكسبه "الإنسان" وإن فوّتت عليه "الانتصار" في الجدال. يجب أن نُدرك أنّ الفيسبوك وكل وسائل التواصل الاجتماعي فُرصٌ دائمة ومتجددة للقاء وللحوار وللتعبير الحر وهو ما يُحتّم علينا حُسن توظيفها في سبيل بناء الأفكار والمعاني وكسب الإنسان وليس لهدر كرامته وتمزيق حرير روحه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.