كان من المتوقع أن تنطلق الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط في جولة ثانية لكوشنر، بقصد إقناع الأطراف العربية بتمرير صفقة القرن، ففي الجولة الأولى، لم تنجح إدارة ترامب سوى في استصدار بيان للدول العربية، وضع في رأسه تثمين محتشم للمبادرة الأمريكية للسلام، مع تأكيد على الحقوق الفلسطينية، وكان واضحاً من الحيز الذي احتله هذا التثمين في كل البيانات العربية، أن لغة الضغط هي التي فرضته، وأعطت في الوقت ذاته فسحة للتشديد على الحقوق الفلسطينية، كأن ما كان يهم الإدارة الأمريكية وقتها هو الاعتراف بهذه المبادرة والإشادة بها، حتى لا تولد ميتة فيتلقى ترامب ضربة سياسية قوية، يستغلها خصومه لضم ملف جديد في لائحة مخازيه، يساعد خصومه في معركة إسقاطه.
لكن الجولة الثانية التي يجريها كوشنر اليوم في المنطقة تتشابه وتحمل طابعاً خاصاً واستثنائياً، إذ ليس المقصود منها فقط استصدار بلاغ إشادة وتثمين يثبت جدية المبادرة ودرجة الاهتمام العربي بها، وإنما المقصود بها شيء آخر، هو جعلها ضمن أوراق اعتماد تستثمر لتقوية حظوظ كل من ترامب ونتنياهو للفوز في الانتخابات.
ورغم الاختلاف البيّن في طبيعة كل من الجولتين، والهدف منهما، فإن الثابت فيهما أن الإدارة الأمريكية ستستعمل نفس أوراق الضغط التي استعملتها من قبل من أجل دفع عدد كبير من الدول العربية للإقدام على ما أقدمت عليه الإمارات من تطبيع مع الكيان الصهيوني.
بدأت الرحلة من قطر، وظهر من خلال أجندتها أن الإدارة الأمريكية تحاول أن تستعمل ملف حصار قطر، وتلوح بأن بإمكانها إنهاء هذا الحصار، وأن الدول المُحاصِرة عبرت للإدارة الأمريكية عن تعبها من هذا الحصار، وأبدت رغبتها في إنهائه، لكن الرد القطري باشتراط تثبيت الحقوق الفلسطينية وفي مقدمتها حل الدولتين، لا يخدم الأجندة الأمريكية والإسرائيلية التي تريد شيكاً عربياً على بياض.
زيارة كوشنر لبقية الدول الخليجية، لاسيما البحرين والسعودية، لن تكون صعبة، فهي تمتلك أوراق ضغط كبيرة على السعودية، وتدرك أن البحرين لا تملك أي خيارات للاستقلال بقرارها السياسي بعيداً عن السعودية، ما دامت وضعت بيضها كله في سلتها يوم اتخذ قرار حصار قطر.
الأردن استبقت الزيارة بردّها الضمني على التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، وبإعلان تحفظها، وتأكيدها ليس فقط على الحقوق الفلسطينية، بل على حقوقها وصلاحيتها الحصرية في الإشراف على المسجد الأقصى وتنظيم الدخول إليه وتدبير دائرة أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى.
مصر لم تكن مختلفة في شيء عن موقف دولة الإمارات، سوى ما كان من حديث عن الحقوق الفلسطينية، وعن تأمين السلم الإسرائيلي، كذيل على هامش الموقف التطبيعي، في حين تحتفظ دول المغرب العربي بخصوصية تميزها، كونها تنفرد بقدر كبير من التريث ووضع الحقوق الفلسطينية كشرط في مقابل أي موقف تطبيعي، هذا على الرغم من ملف الصحراء الذي تحاول الإدارة الأمريكية استثماره من أجل استصدار موقف مغربي تطبيعي مع الكيان الصهيوني.
ثمة فرز عربي في الموقف لا يسوغه الموقف من عملية التطبيع نفسها، وإنما يسوغه الموقف من الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية، فبعض الدول العربية (مثل المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر)، التي اختارت سياسة التمدد الإقليمي، وسياسة بث الفوضى في عدد من الأقطار العربية، فضلاً عن انتهاكات حقوقية جسيمة (اغتيال خاشقجي بالنسبة للسعودية وتعذيب المعارضين السياسيين في مصر)، ارتبطت شرعيتها الجديدة، بالإدارة الأمريكية وحزب الليكود اليميني بإسرائيل، وترى أن شرعيتها في السلطة ستكون مهددة إذا لم تكن في موقع المساند لهذا التيار المحافظ في كل من أمريكا وإسرائيل، في حين ثمة طرف ثانٍ يرى أن هذه المبادرة لا تحمل أي حل سياسي للنزاع العربي الإسرائيلي، وأنها مشحونة بخلفية انتخابية أمريكية وإسرائيلية، وهي لذلك تريد أن تخرج بأقل الخسائر، دون أن تعرض الحقوق الفلسطينية للخيانة، لاسيما أن بعض الدول، مثل المغرب والأردن، تتدخل الحساسية الدينية لتقيد موقفها.
السعودية نفسها، محكومة بالموقف الديني، لكنها تملك أن تجبر بعض علمائها في أن يسايروا ما فعلته الإمارات، حينما دفعت الشيخ الموريتاني عبدالله بن بيه والدكتور فاروق حمادة، المقيمين عندها، للخروج بموقف "شرعي" يرى أن ولي الأمر له الصلاحية الحصرية في النظر المصلحي للدولة، وخوض الحرب وعقد اتفاقية السلام، وألا أحد يملك الصلاحية في تقدير مصلحة أخرى مخالفة لما رآه ولي الأمر.
في المحصلة، من المرجح أن يستمر هذا الفرز، وألا يتجاوز الداعمون لهذه المبادرة، بعض دول الخليج ومصر، وأن يتم استثمار مزيد من الوقت من بعض الدول العربية، للتخفف من الضغط، لاسيما أن حظوظ ترامب في الفوز بالانتخابات أصبحت قليلة في ظل منافسة شديدة من قبل الديمقراطيين وغضب من طرف عدد من الجمهوريين الذين انضموا إلى صفّ الديمقراطيين في مهمة إسقاط ولاية ثانية لترامب على رأس الإدارة الأمريكية.
بعض الدول العربية، مثل المغرب، تنزعج دائماً من وصول الديمقراطيين إلى الإدارة الأمريكية، لأنها تجد متاعب كبيرة في ملف الصحراء في ظل إدارتهم لدفة الحكم في أمريكا، وتعيش وضعاً أقل إحراجاً مع الجمهوريين، لكنها تميز بين الجمهوريين وبين ترامب، وترى أن ترامب يمثل ظاهرة خاصة، لا هي من الديمقراطيين ولا هي من الجمهوريين، وربما ترى أن الديمقراطيين على مساوئهم هم أفضل من وجود ترامب على رأس الإدارة الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.