تجري بعد نحو شهرين من الآن -تحديداً في 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل- الانتخابات الرئاسية الأمريكية الـ59، التي يتنافس فيها المرشح الجمهوري دونالد ترامب الرئيس الحالي للبلاد -هو الرئيس الـ45 لأمريكا- ضد منافسه الديمقراطي جون بايدن، ومرشحة الحزب الليبرتاري الأمريكي جو جورغينسين. غير أن حظوظ الأخيرة تكاد تكون منعدمة في ظل النظام الانتخابي المتبع في الولايات المتحدة الأمريكية والذي لم يسمح -بحكم طبيعته كما سنرى- لأي مرشح بالوصول للبيت الأبيض من خارج الحزبين الكبيرين باستثناء جورج واشنطن الرئيس الأول للبلاد والذي كان مرشحاً مستقلاً غير حزبي.
تُوصف الانتخابات الرئاسية الأمريكية بالفريدة والمعقدة، فهي تُعد من أطول الانتخابات الرئاسية على مستوى العالم، حيث إنها تستغرق قرابة العام وتتم على مرحلتين: الأولى عملية حزبية داخلية للانتخاب المباشر، يتوجه خلالها الناخبون من كل ولاية من المنتمين للحزب لاختيار المرشح الأقدر على تمثيل حزبهم على المستوى الوطني في الانتخابات الرئاسية، وهو ما يعرف بالانتخابات التمهيدية. أما المرحلة الثانية فهي التي تتم في شهر نوفمبر/تشرين الثاني ويصطف خلالها المواطنون أمام صناديق الاقتراع لاختيار المندوبين الذين سيشكلون المجمع الانتخابي الذي سيقوم بانتخاب الرئيس. وعادة ما يتعهد هؤلاء المندوبون بدعم مرشح رئاسي محدد، وعلى ذلك الأساس يقدم المواطنون على انتخابهم ليصوتوا نيابة عنهم في المجمع الانتخابي.
ويتكون المجمع الانتخابي من 538 عضواً وهو نفس عدد مقاعد مجلسي النواب (435) والشيوخ (100) مجتمعين، بالإضافة لثلاثة مقاعد مخصصة لمقاطعة كولومبيا "العاصمة واشنطن" ليصبح المجموع 538 عضواً، ويتوجب على الفائز الحصول على 270 صوتاً أو أكثر من المجمع الانتخابي. وفي حالة عدم حصول أي من المرشحين على الأغلبية اللازمة يتولى مجلس النواب انتخاب الرئيس من بين المرشحين للمنصب فيما يضطلع مجلس الشيوخ بانتخاب النائب، وهو ما حدث بالفعل مرتين في حالة الرئيس، الأولى عام 1800، والثانية في عام 1824، ومرة واحدة على منصب النائب عام 1836.
ويمكننا القول إن عدد مندوبي الولايات داخل المجمع الانتخابي ليس ثابتاً، حيث يتم تعديل عدد الأصوات الممنوحة لكل ولاية بحسب آخر إحصاء سكاني للولايات المتحدة قبل الانتخابات، مع ثبات عدد أعضاء المجمع الانتخابي (538)؛ حيث يتم خصم الأصوات المضافة للولايات التي ارتفع معدل سكانها من الولايات التي يتراجع فيها معدل النمو السكاني، مع ضمان ألا يقل تمثيل أي ولاية عن 3 أعضاء مهما بلغ انخفاض تعدادها السكاني. والأكثر تأثيراً في المجمع الانتخابي هي الولايات ذات الكثافة السكانية بالطبع؛ حيث تتصدرها ولاية كاليفورنيا بـ 55 صوتاً، وتكساس بـ 38 صوتاً، غير أن الولايات الكبرى وحدها غير قادرة على حسم السباق لصالح أحد المرشحين.
أبرز عيوب نظام المجمع الانتخابي
تم تبنِّي هذا النظام التصويتي قُبيل أول انتخابات رئاسية عام 1789، في إطار مع عُرف حينها بتسوية "كونكتيكت" التي عُنيت بتحديد الكيفية التي يتم بها تمثيل الولايات المختلفة في الكونغرس، ولاحقاً في المجمع الانتخابي. كما تم التوصل لذلك النظام ليكون حلاً توافقياً للخلاف الذي نشب خلال إعداد الدستور عام 1787 بين الداعين لانتخاب الرئيس مباشرة من قِبَل الشعب، وآخرين طالبوا بنظام برلماني بحيث يتكفل الكونغرس بانتخابه. وقد دعم الآباء المؤسسون للولايات المتحدة خيار المجمع الانتخابي لتشككهم في قدرة عامة الشعب على فهم القضايا الكبرى والتي يُفترض أن يتحدث عنها المرشحون للرئاسة؛ لذلك رأوا أن يكلف "مندوب" يكون أكثر إدراكاً بالتصويت بدلاً من العامة. كما أنهم وجدوا في ذلك النظام حلاً لتجاوز معضلة اتساع رقعة الولايات وصعوبة تعرف الناخب على المرشح بشكل مباشر.
وقد لاقى النظام تأييداً من الولايات الجنوبية التي كانت تحوي أعداداً كبيرة من العبيد، فعلى الرغم من عدم السماح لهم بالتصويت في الانتخابات، حيث لم يكن يُسمح للعبيد أو السكان الأصليين أو النساء بالتصويت بل كان قاصراً على الرجال البيض من ملاك الأراضي، فإنه تم حصرهم في التعداد السكاني للولايات بواقع احتساب العبد بثلاثة أخماس فرد، بهدف زيادة تمثيل تلك الولايات التي كان ينتمي إليها أغلب واضعي الدستور والآباء المؤسسون في الكونغرس وفي المجمع الانتخابي.
وضع واشنطن
تكمن أبرز عيوب النظام الانتخابي الحالي في حالة الحرمان من الحقوق المدنية التي يفرضها على مدار قرنين من الزمان على سكان مدينة واشنطن، حيث إن ساكني المدينة لا يحق لهم التصويت في انتخابات الكونغرس كباقي الأمريكيين، فهم ممثلون في مجلس النواب بعضو واحد له حق التشاور ولا يحق له التصويت وليس لهم أي تمثيل في مجلس الشيوخ. أما فيما يخص الانتخابات الرئاسية فالمدينة ممثلة بثلاثة أعضاء فقط في المجمع الانتخابي غير قابلين للزيادة، ولعل لذلك تاريخياً ما يبرره؛ حيث إن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة كانوا يميلون لاعتبار الدولة الأمريكية إطاراً لاتحاد مجموعة من الدول تحتفظ فيه كل منها بمساحة واسعة من الاستقلالية لتطبيق القوانين والرؤى التي تريدها؛ أي أنها بالأصح فيدرالية دول أكثر منها ولايات تابعة للمركز؛ لذلك فقد اتفقوا عام 1790على ضرورة إنشاء عاصمة دائمة للبلاد تضم المؤسسات الإدارية ولا تخضع لأي ولاية وتحمل صفة قطاع اتحادي يقع تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية مباشرةً ولا يجوز تحوله إلى ولاية كي لا تمتلك سلطات تفوق ما للولايات الأخرى.
وجه العنصرية الأمريكية
على الرغم من نجاح ساكني المدينة في انتزاع مرسوم في عام 1802 بمنحهم حق انتخاب مجلس للمدينة، فإنهم منعوا في المقابل من المشاركة بالانتخابات الرئاسية أو انتخاب ممثلين لهم بالكونغرس، حيث كان البرلمانيون يخشون آنذاك من أن يؤثر نواب واشنطن -حيث يوجد مقر "الكونغرس"- بقوة على أعمال مجلسي النواب والشيوخ. ومع نهاية الحرب الأهلية الأمريكية 1865 أصدر إبراهام لينكولن "إعلان التحرر" وبموجبه تم إلغاء الرق وتحرير نحو 4 ملايين من العبودية وشكل السود حينها نحو ثلث سكان العاصمة واشنطن. وفي عام 1867 انتزع الذين تخلصوا مؤخراً من براثن العبودية حق المشاركة في الانتخابات المحلية وتمكن هؤلاء السود الأحرار من بلوغ مناصب مرموقة بالحكومة المحلية مثيرين بذلك قلقَ عددٍ كبير من السياسيين البيض، وهو ما دفع الكونغرس بين عامي 1871 – 1874 لسن مجموعة من القوانين بهدف إلغاء حق ساكني المدينة في انتخاب مجلس محلي لإدارة مدينتهم وإنهاء العمل بنظام الاقتراع بالعاصمة واشنطن وتفويض مهمة تعيين أفراد حكومتها المحلية للرئيس الأمريكي الذي يختار أفراد الحكومة على أن يوافق عليهم الكونغرس.
استمر نضال واشنطن نحو قرنين من الزمان حتى عام 1961 حين تمت المصادقة على التعديل الدستوري الـ23 والذي يجيز لساكني الولاية اختيار 3 ممثلين فقط في المجمع الانتخابي، رغم أن عدد سكان المقاطعة البالغ نحو 705 آلاف مواطن يتجاوز عدد سكان ولايتي وايومنغ وفيرمونت مجتمعتين ويتجاوز عدد سكان 11 ولاية أخرى. وفي عام 1971 سمح للمدينة بانتخاب عضو في الكونغرس يشارك بصفة مراقب ولا يحق له التصويت، كما مُنعت واشنطن من المشاركة في مجلس الشيوخ. وفي عام 1973 أعطيت حق انتخاب عمدة لها ومجلس للمقاطعة مكون من 13 عضواً على أن يحتفظ الكونغرس بالحق في نقض أي قرار صادر عن مجلسها المحلي. وفي عام 1977 نجحت المدينة في الحصول على أغلبية في مجلس النواب لإقرار تعديل دستوري بتمثيل المدينة في الكونغرس لكن مجلس الشيوخ لم يصادق عليه وهو ما تكرر في عام 1993. ولا يزال ساكنو واشنطن يعانون في ظل النظام الانتخابي الحالي من غياب حقوقهم المدنية والدستورية.
توزيع متفاوت لأصوات المجمع الانتخابي
يرى عدد كبير من المحللين السياسيين أن المجمع الانتخابي هو آلية غير ديمقراطية لحسم الانتخابات لا تتوافق مع متطلبات العصر الحالي، وهو انحراف عن مفهوم الديمقراطية الشعبية لكونه قائماً على المحاصصة المناطقية، وهو ما أنتج وزناً نسبياً متفاوتاً لأصوات المواطنين في الانتخابات الرئاسية، إذ يصب لصالح الولايات منخفضة السكان مثل ألاسكا وديلاوير ومونتانا وشمال وجنوب داكوتا وفيرمونت ووايومنغ ذات الأغلبية البيضاء، ويظلم الولايات ذات الكثافة السكانية العالية التي تتميز بتنوع كبير في البنية الإثنية والعرقية للسكان. على سبيل المثال ولاية كاليفورنيا يقطنها أكثر من 37 مليون مواطن وهي ممثلة بـ55 صوتاً انتخابياً داخل المجمع الانتخابي بمعدل صوت واحد لكل 670 ألف شخص، أما ولاية وايومينغ التي يسكنها نحو 560 ألفاً فهي ممثلة بـ3 أعضاء أي بمعدل صوت لكل 186 ألف نسمة، وهو ما يعني أن المواطن في وايومينغ يملك أربعة أمثال الوزن التصويتي للمواطن في كاليفورنيا، وهو الأمر ذاته الذي تعاني منه الولايات على الساحل الشرقي والغربي الأمريكي والولايات المطلة على البحيرات العظمى، وهي ولايات ذات كثافة سكانية مرتفعة وتتميز بتنوع سكاني كبير، وتُصوت غالباً لصالح الحزب الديمقراطي.
التمثيل المطلق
كما يُنتقد أيضاً في ذلك النظام اعتماده على قاعدة "التمثيل المطلق"، أي أن المرشح الذي يحصل على 50% +1 من أصوات الناخبين في الولاية يفوز بجميع أصواتها في المجمع الانتخابي، وهو ما يُطبق في 48 ولاية ولا يتفرد عنها سوى ولايتي نبراسكا وماين اللتين تطبقان نظام التمثيل النسبي، حيث تقسم فيهما أصوات المجمع الانتخابي حسب نسبة التصويت. ونتيجة لذلك النظام المتبع فإن ملايين الأصوات تصبح بلا قيمة لمجرد فوز المرشح بأغلبية بسيطة داخل الولاية. فمثلاً في انتخابات عام ٢٠٠٠ فاز بوش (الابن) بكامل أصوات فلوريدا (29 صوتاً) بفارق ٥٣٧ صوتاً فقط عن منافسه آل جور، أي بفارق نسبته 0.0092% من الأصوات.
رئيس دون أغلبية شعبية
يؤدي ذلك النظام إلى إمكانية وصول رئيس لسدة الحكم دون أن يحظى بأغلبية الأصوات الشعبية، لمجرد حصوله على أغلبية الأصوات في الولايات منخفضة الكثافة السكانية، والتي يتمتع قاطنوها بأصوات ذات وزن نسبي مرتفع، بالطبع إلى جانب الفوز بعدد من الولايات الكبرى، وهو ما حدث بالفعل مرتين في آخر خمسة انتخابات رئاسية.
ففي انتخابات عام 2000 فاز بوش بـ271 صوتاً داخل المجمع الانتخابي، رغم تفوق آل جور في التصويت الشعبي بأكثر من نصف مليون صوت. وفي انتخابات 2016 نجح ترامب في الحصول على 306 مندوبين في مقابل 232 مندوباً لمنافسته هيلاري كلينتون، رغم حصول الأخيرة على ما يزيد عن مليوني صوت أكثر من منافسها خلال التصويت الشعبي، وذلك بفضل نجاح ترامب في الفوز تقريباً بجميع الولايات منخفضة الكثافة السكانية. تاريخياً تكرر ذلك المشهد ثلاث مرات، كانت جميعها خلال القرن التاسع عشر، حيث انتُخب ثلاثة رؤساء آخرين رغم عدم فوزهم بالتصويت الشعبي، وهم جون كوينسي آدامز 1824، ورذرفورد بي هايز عام 1876، وبنجامين هاريسون عام 1888.
ومن المثير للاهتمام أن الرؤساء الخمسة جميعهم ينتمون للحزب الجمهوري -جون أدامز كان يتنقل بين الحزب الفيدرالي والحزب الجمهوري- وذلك بفعل تصويت الولايات ذات الكثافة السكانية المنخفضة في وسط وجنوب البلاد، والتي يقطنها بأغلبية كبيرة مواطنون بيض محافظون، يميلون دوماً للحزب الجمهوري.
غياب الإلزام القانوني
كذلك يلقى النظام الحالي نقداً لكونه غير مُلزم قانونياً أو دستورياً لمندوبي الولايات بالتصويت لصالح المرشح الذي حصل على الأغلبية في التصويت الشعبي داخل الولاية، لكنهم يلتزمون بذلك غالباً، وهناك 24 ولاية تعاقب المندوبين الذين يخالفون تعهداتهم بانتخاب المرشح الحاصل على الأغلبية الشعبية، والذي عادة ما يوصف بالخائن وعديم الولاء.
في انتخابات 2016 صوّت 10 من المندوبين لصالح مرشح لم يحز أغلبية الأصوات داخل ولاياتهم، وهو عدد كبير غير مسبوق، وهو وإن لم يحدث فارقاً في تحديد هوية الفائز في تلك الانتخابات، إلا أنه كان يمكن أن يُحدث انقلاباً في نتائج عدد كبير من الانتخابات السابقة في التاريخ الأمريكي.
فيما يدفع مؤيدو المجمع الانتخابي بأنه يحافظ على الفيدرالية، ويُعزز اللُّحمة الوطنية، فبفضل منح كل ولاية 3 أصوات على الأقل مهما قلّ تعدادها السكاني، يتوجب على المرشح الذي يسعى للفوز بالانتخابات الفوز بعدد من تلك الولايات الصغيرة المنتشرة جغرافياً، والتي يمكن أن يتم تجاهلها نسبياً في نظام التصويت الشعبي، ويصب حينها المرشحون كامل اهتمامهم على الولايات الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية، إذ تحوي الولايات التسع الأكثر اكتظاظاً بالسكان ما يزيد عن نصف سكان أمريكا، فيما تحتوي الـ25 ولاية الأقل تعداداً نحو سدس مجموع سكان البلاد، وتعتبر ولاية كاليفورنيا صاحبة العدد الأكبر من السكان؛ إذ يتجاوز تعدادهم أكثر من سكان 21 ولاية صغيرة مجتمعة.
في الواقع هناك العديد من الدعوات لتغيير ذلك النظام الانتخابي، فالبعض يطالب بمسايرة جميع الديمقراطيات الرئاسية في العالم، واللجوء للتصويت الشعبي المباشر، والبعض الآخر يرون إمكانية الإبقاء عليه مع تعديل الفوز بالتمثيل المطلق للولاية، ويدعون لاستبداله بالنظام النسبي المتبع في نبراسكا وماين، وهو ما من شأنه أن يحفظ أصوات الولايات الصغيرة، ولا يضيع أصوات ملايين الناخبين في الولايات الأخرى حال عدم فوز مرشحهم بأغلبية الأصوات الشعبية في الولاية، ما قد يجعل من أي رئيس قادم انعكاساً حقيقياً لرغبة الشعب الأمريكي.
إلا أن ذلك التغيير يظل شبه مستحيل، لأن أي تعديل في الدستور يستوجب لتمريره الحصول على أغلبية الثلثين في مجلسي النواب والشيوخ، ومصادقة مجالس ثلاثة أرباع ولايات البلاد، أي 38 ولاية على الأقل، وهو ما لن يقبله مطلقاً الحزب الجمهوري، الذي يدّعي أنه لا يدافع عن نظام المجمع الانتخابي لأنه يحابيه، إنما لأنه يوفر اليقين الأخلاقي بأن منصب الرئيس لن يسقط أبداً ضحية لرجل لا يمتلك المؤهلات المطلوبة، وهو ما يمكن دحضه ببساطة بمجرد ذكر اسم دونالد ترامب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.