يحتفل اللبنانيون هذه الأيام بمئوية لبنان الكبير، لا شيء اختلف منذ مئة عام سوى أن الإرادة الخارجية تحولت لإرادات متعددة، وأن وصاية غورو على مشرق المتوسط باتت وصايات لا تنتهي، موسكو شمالاً، باريس في شواطئ العاصمة، فيما إسرائيل تنتهك البحر والجو والبر جنوباً في اليابسة وحتى المياه الإقليمية الدافئة، وعلى خط مواز فالاحتلال الداخلي يفني الحياة ويمتص الأوكسجين ويملأ الأرجاء دماء وأشلاء وظلاماً دامساً لا ينتهي.
ماكرون ومياه بيروت قبل شعبه.
يصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للعاصمة اللبنانية بيروت مساء الإثنين بعد أقل من شهر على زيارته الأولى التي أعقبت الكارثة الكبرى في مرفأ بيروت، قال حينها ماكرون للمسؤولين اللبنانيين إنه سيعود ليحتفل معهم في ذكرى المئوية لإنشاء الكيان اللبناني والذي صممته باريس وحلف المنتصرين على بقايا العثمانية الأولى، وضع الرجل في يدي من التقاهم في قصر الصنوبر حينها خارطة طريق واضحة، تقضي بالعودة لما قبل أحداث ١٧ تشرين ٢٠١٩، أي إعادة إحياء النظام اللبناني لكن بنسخة معدلة، حكومة وفاق وطني يرأسها سعد الحريري وتقصي بشكل مباشر تمثيل حزب الله بكونه الحلقة الأكثر تحملاً لمسؤولية النفور الدولي والعربي من لبنان بسبب تصرفاته في الإقليم، ومساهماته في حروب المنطقة، كما تنص المبادرة على إبعاد صهر الرئيس ميشال عون الوزير السابق جبران باسيل عن المشاركة في حكومة مقبلة، بكون الرجل عامل استفزاز لشرائح عامة من اللبنانيين وتنبذه قوى الحراك الشعبي، فهو الذي تسبب لسنوات بعرقلة الإصلاحات وتدمير البنية المؤسساتية للدولة بحكم التوغل السريع الذي شهدته الإدارة اللبنانية في أقل من سنوات، لم تشهد الدولة الوطنية تغولاً في تاريخها كالذي شهدته في ميشال عون وصهره لناحية وضع اليد والإخلال بالتوازن الذي رسمه اتفاق الطائف، يكمل ماكرون مبادرته المقلقة للبعض بضرورة قيام حكومة ما بعد انفجار المرفأ بالدعوة لانتخابات نيابية مبكرة تنفس الشارع الملتهب والمأزوم تحت مطرقة الفساد والإفساد والذي لم يتوقف لدقيقة، ويسعى ماكرون وبحسب أوساط متابعة لضرورة أن تقر الحكومة المقبلة لإصلاحات ولو في قطاع واحد وهو قطاع الكهرباء والدعوة لتحقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان والذي باتت خسائره لا تقدر والانهيار بات قوب قوسين أو أدنى في ظل الكلام عّن إيقاف الدعم عن المواد الرئيسية كالدواء والطحين والوقود.
واشنطن وباريس.. الصراع لم يعد صامتاً
لم تحظ مبادرة ماكرون بدعم واشنطن.. هذا باختصار ما باتت تعبر عنه إدارة ترمب والتي تخوض معاركها الداخلية والخارجية على أعتاب انتخابات أمريكية مصيرية، خرجت السفيرة الأمريكية في بيروت دورثي شيا لتعلن في تصريحات صحفية أن "العقوبات مستمرة واقتراحات الفرنسيين تخصّهم وحدهم" ، تأتي هذه التصريحات في ظل محاولات باريس "لنهايات سعيدة" في ملف تكليف رئيس للحكومة اللبنانية، لم تمرر واشنطن تكليف الحريري ومعها الرياض التي أبلغت ماكرون مراراً أنها لا تريد سعد الحريري على رأس أي حكومة مقبلة، ويبدو هنا امتعاض فرنسي من تشبث واشنطن بشروطها، فيما ترى الإدارة الأمريكية أن "إبر المورفين" في الملف اللبناني تسببت بهذا الواقع الصعب والذي أدى لسيطرة حزب الله وشركائه في الحكم على مقدرات لبنان، هذا ما يعبر عنه المسؤولون الأمريكيون من ديفيد هيل إلى ديفيد شينكر، واشنطن لديها مجموعة شروط لا تنازل عنها في لبنان، ترسيم الحدود البحرية والبرية، توسيع صلاحيات اليونيفيل والبدء بنقاش جدي حول صواريخ حزب الله، مرّرت الإدارة الأميركية مشروع القرار الفرنسي للتمديد لقوات اليونيفيل في جنوب لبنان لمدة سنّة.
لكن القرار ألزم الأمين العام للأمم المتحدة بإعداد خطّة خلال 60 يوماً، لتعزيز نطاق عمل القوات الدولية وتسهيل مهامها وتزويدها تقنيات متطورة لكشف حركة الأسلحة والدخول إلى مواقع كان ممنوعاً عليها دخولها، وستعمل واشنطن على أكثر من خطّ في الساحة اللبنانية عبر حلفائها فيما تنتظر المبادرة الفرنسية وما يمكن أن تحققه من تنازلات من اطراف الأزمة، وفي المقابل تطيل أمريكا أمد الأزمة والشروط التي ستبقى مطروحة وتتبلور تباعاً في المرحلة المقبلة، فيما مصادر دبلوماسية تستبعد أن يتمكن أي رئيس للحكومة من تشكيل حكومته قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، واشنطن تريد تأجيل أي حل لبناني على عكس التمنيات الفرنسية، تتزامن زيارة ماكرون مع زيارة المبعوث الأميركي ديفيد شينكر والذي سيلتقي مع قوى ومجموعات الحراك اللبناني ما يؤكد الضغوط السياسية الأمريكية، ستكون متماهية مع ضغوط شعبية، حتى وإن كانت هناك حكومة جديدة قيد التشكيل أو مشكّلة.
بيروت بوابة طرابلس الغرب.
كانت تصريحات ماكرون منذ يومين تؤكد أن عين باريس الأولى في بيروت لن تشغل العين الثانية في ليبيا وصراعات البحر المتوسط، يرى ماكرون أنه إذا تخلينا عن لبنان ستندلع حرب أهلية"، وأنه "إذا تركنا لبنان في أيدي قوى إقليمية فاسدة ستقوض هويته"، يدرك المتابع لتطورات المشهد الإقليمي والتوترات الناشبة في المتوسط بين أنقرة وحلفاء باريس كاليونان وقبرص أن تصريحات ماكرون عن القوى الفاسدة تطال تركيا، لا يقصد الرجل طهران فهو الحريص عليها وعلى بقاء حضورها والتعاون معها، فيما القوى الإقليمية الأخرى أي -إسرائيل- فهي في شهر عسل لم ينقطع يوماً مع أي مسؤول تطأ قدماه قصر الإليزي ، المؤكد أن الموقف الذي أطلقه ماكرون يطال خصمه اللدود "أردوغان" الذي بات يشغل بال فرنسا والإمارات ومصر بشكل كبير، وكان ماكرون قد أبلغ من التقاهم في بيروت أنه يخشى من تمدد تركي عبر جماعات إخوانية في الشمال اللبناني، يدرك الرجل أن أي حضور تركي في الساحة اللبنانية يربك حلفاء باريس والمحور العربي، يستجلب الرجل صراعات تاريخية للبنان، حساسية أرمنية، هواجس مسيحية، خصومة مع حلفاء النظام في دمشق وملامسة للخشية العربية المتأثرة من صعود أردوغان وحزبه في المشهد العربي والذي أطاح بالحضور العربي وقلص دوره من شريك استراتيجي في اللعبة الاقليمية لملحقات في المحور الإسرائيلي أو الروسي، ما يزيد من أزمة باريس في إعلان الخارجية الأميركية "تقديرها للشراكة الوثيقة " مع حكومة رئيس الوزراء الليبي، فائز السراج، داعية إياها للتعاون لما فيه مصلحة شعب البلا ، هذا الإعلان يؤكد أن محور الاهتمامات الفرنسية لا يتقاطع مع خيارات واشنطن وطموحاتها ومصالحها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.