عندما زار المؤرخ اليوناني هيرودوت مصر، قال قولته الشهير "مصر هبة النيل" لما رآه في مصر من صحارى تطبق على وادي النيل شرقه وغربه مما لم يسمح للمصريين أن يفارقوا حرمه الآمن لآلاف السنين.
ومع تطور الأزمان، تطورت الصحارى في بعض الدول التي تطاولت في البنيان وباتت في مصافي الدول المتقدمة بل وأصبحت الزيارة لها مكلفة لأنها تخشى على نفسها ممن يزورونها وقد يحملون إليها ديدان المياه العذبة التي ارتوت بها أكبادهم وترعرعت فيها ديدان هذه المياه.
وما كان هذا إلا باستغلال سليم للأماكن التي أنشئت فيها هذه الدول أو المدن أو المدن الدول (إن صح التعبير) على سواحل البحار والمحيطات والخلجان، وكلها مياه يقطر منها ملح أجاج يهرس الأكباد، غير أن هذا الملح الأجاج تحول بفضل تكنولوجيا تحلية المياه إلى ماء مستساغ يُستخدم في الأغراض كافة؛ وإن تسبب ببعض الأمراض، فما هو ببعيد في جودته عن ماء الأنهار المليئة بالطحالب ورواسب الطمي.
إذن، حولت تكنولوجيا تحلية المياه مخازنَ المياه المالحة إلى موارد يصلح معها أن تقوم على جوانبها عمارة وصناعة وسياحة وتجارة بل وزراعة.
ومع ذلك، ما زالت المحروسة حبيسة قولة هيرودوت، ولما زالت غمة كلمته فيها بدأت الحكومة في تحويل سواحل البحرين الأبيض والأحمر إلى منشآت سياحية تمثلت في مئات القرى والمنتجعات السياحية وآلاف الشاليهات التي لا تُستخدم على مدار العام إلا بضعة أسابيع تُترَك بعدها بئراً معطلة وقصراً مشيداً.
حدث هذا ويحدث بينما تعج مدن وقرى مصر على شواطئ النيل بالازدحام وعوادم السيارات والضوضاء والسحب السوداء وأطنان الزبالة، وكان الأحرى استغلال هذه الشواطئ وهذه الاستثمارات المليارية إن لم تكن التريليونية في بناء محافظات جديدة واستخدام تقنية تحلية المياه لتقوم بها حياة متكاملة بما فيها من مدارس وجامعات ومستشفيات ومزارع ومصانع وشركات وسككك حديدية ومطارات وموانئ وبنوك ومحاكم وفنادق ومطاعم ومقاه ونواد وأسواق ومراكز تجارية، إلخ.
قد يقول قائل: "ما للحكومة شيء في هذه الاستثمارات، فكلها استثمارات خاصة"، لكن الواقع يكذب هذا القول لأن الأراضي التي مُنحت للشركات العقارية الضخمة أو بيعت لها 'برخص التراب' منحتها أو باعتها الحكومة، ولأن البنوك التي ساهمت فيها جزئياً أو كلياً هي بنوك الحكومة في الأغلب الأعم، ولأن التراخيص التي نشأت بمضمونها هذه الاستثمارات حملت توقيعات كبارات رجال الحكومة.
كان يمكن للحكومة أن تحدد أنشطة هذه الاستثمارات الضخمة وتجعلها مدناً كاملة المرافق تُسكَن على مدار العام، يجد فيها الشباب مسكناً يتزوجون فيه ويؤسسون فيه أسرة ويجدون فيه فرصة عمل أو استثمار وحضانة ثم مدرسة ثم جامعة وهكذا.
لو نحت الحكومة على هذا النحو لكفاها هذا عبء إقامة المدن الجديدة التي تبنيها في الصحراء ولا يسكنها أحد لأنها تخلو إلا من الوظائف التقليدية إن وُجدت وتكاد تنعدم فيها فرص الاستثمار، ولتوجَّه الناس للمدن الساحلية طمعاً في الهواء النقي وخير البحر من ثروة سمكية ومناظر سياحية تكون قاعدة لاقتصاد سياحي (يتكون من فنادق وقرى سياحية ومطاعم) وموانئ تجارية على جوانبها شركات شحن وتفريغ واستيراد وتصدير، إلخ..
وقد يقول قائل آخر "إن الحكومة فعلت كل هذا بالفعل، وأنشأت مدناً كاملة على بعض السواحل المصرية، مستفيدة من تكنولوجيا تحلية المياه، وما مدن الغردقة وشرم الشيخ ومرسى مطروح ومرسى علم بل والمدن الجديدة مثل العلمين الجديدة إلا أمثلة قليلة تشهد باستثمار حكومي في سبيل إنشاء مدن كاملة على ساحلي البحرين الأبيض والأحمر." ومع اعترافنا بهذه الحقيقة، إلا أنه لنا تعقيب على هذا القول، نجمله في هذه النقاط:
(1) إن بعض هذه المدن (مثل الغردقة) تنقسم لمدينتين لا مدينة واحدة: إحداهما مدينة أقيمت على أطلال تاريخية ومهملة إلى حد كبير، والأخرى مدينة سياحية تنعم بكل الموارد والدعم.
(2) إن بعض هذه المدن مدن سياحية بالكامل (مثل شرم الشيخ ومرسى علم) وتكاد تنعدم بها فرص الحياة إن لم تكن لساكنها وظيفة في قطاع السياحة.
(3) بعض المدن (مثل العلمين الجديدة) مدن فاخرة وهي واجهة مشرفة بالتأكيد، إلا أنها – كما يبدو من أسعار العقارات والخدمات بها، حتى التعليمية منها – مدن لطائفة من المصريين ممن تتعدى حساباتهم في البنوك ستة وربما سبعة أرقام.
ولأن لكل منا أحلامه، فأحد أحلامي هي أن أرى مزيداً من المدن الجديدة على ساحلي البحرين الأبيض والأحمر على أن تكون كاملة المرافق والخدمات التي يستطيعها الشباب في مصر (ولو على أقساط مريحة لا تقل عن 20 سنة)، وأن أرى كذلك استثماراً حقيقياً في تطوير تكنولوجيا تحلية المياه لتعم سواحل مصر كافة ثم الصحارى في مرحلة لاحقة.
وأحسب أن الخطوة العملية الأولى التي يمكن أن تحول هذا الحلم إلى واقع هي أن تستغل الحكومة مئات المدن والقرى السياحية على البحرين الأبيض والأحمر وجعلها واجهة لمدن كاملة المرافق تمتد خلفها وتحولها من مجرد مدن وقرى سياحية مهجورة إلا من فترة الصيف إلى جزء من مدن كاملة تدب الحياة فيها طيلة العام. وإن اعترض المستثمرون ممن أقاموا هذه المدن والقرى السياحية -وحتماً سيعترضون- فما على الحكومة، إن أرادت أن تنتصر لملايين المصريين، إلا أن تأخذ من هؤلاء المستثمرين الأسعار الحقيقة للأراضي التي استغلوها وشيدوا عليها مدنهم وقراهم، وهي تريليونات يمكنها أن تحقق المستحيل، فهل تفعل هذا أو ذاك؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.