جرت العادة المصرية في الاستعداد للأعياد بأن يتكاتف أبناء البيت الواحد يوم وقفة عرفات وما قبلها في عملية تنظيم المنزل وتنظيفه وترتيب زواياه لاستقبال الزوار والضيوف.
في الوقت الذي أخذت فيه بيدي للسير على تلك العادة، أخذني الحنين والشوق بالتفكر وقتاً أكثر من انشغالي بمنزلي الصغير جداً.
لن يزورني أحدهم هذا العيد، أعلم هذا مسبقاً.. لم يزرني أحد منذ 6 سنوات ونصف السنة.. أبداً. هذا ما فرضته ظروف المنفى القسري والتنقل من دولة لدولة علي، تلك حياتي منذ أواخر العام 2013.
إذا كان الحال هكذا.. لماذا أعيد إحياء تلك الطقوس الاحتفالية استعداداً للعيد؟ بماذا سيوحي لي مشهد البيت الصغير، المكون من غرفة واحدة وصالة مربعة الأضلاع، في بناية تناطح الفراغ والسماء، عندما يكون بناءً مرتباً؟
على الأغلب لن يوحي لي بشيء، لن أرى أبي على الكرسي، وجدتيّ لن تمد قدميها على الأريكة الموضوعة بجوار النافذة الزجاجية، ولن تحييني أمي بطبق من الكعك.
تَركت أبي في القبر منذ عشر سنوات فلم نَعد نسير في طرقات القرية معاً نهنئ الأقارب والأصدقاء، وتركت إرث عائلتي الكبيرة من الوِد، وودعت الاجتماعيات والمجاملات المتبادلة ظناً مني بأن هذا فراق لن يطول وقد طال أكثر مما توقعت حتى تأقلمت مع الغياب التام وذاب منيّ أمل الانغماس في ذلك الإرث العائلي مرة أخرى، لا في عيد ولا مأتم.
بعد التأكيد على نفسي بأنه لا ثَمة زوار ولا معيدون، أنهيت المهمة النمطية في قرابة الساعة. ألقيت نظرة عامة على المنزل وأنا أمسك بيدي قطعة من قماش أنهيت بها مسح طاولة المنزل الصغيرة، وأدركت أنه لا يحتوي على قطعة ديكور واحدة أو حتى "أنتيكة"، كانت تلك المرة الأولى التي ألاحظ ذلك الأمر.
شعرت بجفاف الحوائط، برودة الزوايا، سخافة لون دهان الحوائط الأبيض ونمطية الإضاءة.
لطالما كنت من مرتادي أسواق الأنتيكا في حي بلاط بإسطنبول حيث تبدأ مزادات الأنتيكا قبيل المغرب ويتبارى المشترون ومدمنو العَبق في محاولات الاستحواذ على كل ما هو قديم وتفوح منه رائحة التراث. شهدتُ كثيراً من المزادات ولم أشترِ ولو لمرة واحدة أياً من الأنتيكات رغم انبهاري بالكثير منها. كان السبب داخلي لكنني كنت أتجاهله أو لا أراه بوضوح. وفي هذا العام توصلت للإجابة أثناء ترتيب المنزل استعداداً للعيد. الحكاية أنني دوماً مؤقت، لو اشتريت تلك الساعة المُعبدة بالخشب العتيق من حوافها وأسطوانة الغرامافون لأم كلثوم النادر وجودها في مدينة كإسطنبول وغيرها من القطع، أين كنت سأضعها؟
إنني أتنقل باستمرار كل عام بل ربما كل 9 أشهر، من منزل لمنزل، ومن حي لحي، ومن دولة لأخرى. لم أشعر أن أياً من تلك الغرف التي سَكنت هي منزلي، ولم أتيقن أن تلك الأنتيكات، التي كان من الممكن أن تضيف للغرف أو المنازل لمسة جمال، ستمنحني ولو إحساساً كاذباً بالاستقرار.
أنا غريب باستمرار، أنام بين جدران صَماء كموت، زوايا منزلية ضربتها الشيخوخة لن تقبلني في الأصل إن تحاورت معها بالأنتيكا أو الديكورات، فهي على الأغلب تنتظر هجري لها ليأتي ساكن آخر وتمضي معه وقتاً أكثر برودة.
الأنتيكا رواء المنازل لكنها لا تصلح في منزلي.
المنازل في المنافي تتقيؤنا على المشاع ولن تكلف نفسها جهد احتواء نوستالجيا مقتنياتنا ولا مشاعرنا التي سترافقها في الزوايا، وكذا الأنتيكا تلفظ العبث والتخبط وتزداد بهاءاً كلما كانت في منزل مستقر مطمئن.
أصدقائي، كلما سمحت لكم الفرصة بإقتناء أنتيكا لا تترددوا، امسحوا على حزن حوائطكم بلوحات الأبيض والأسود. عاندِوا الزمن بمزيد من الساعات الأنتيكا الخشبية في زوايا الغرف، وكل ما يأتي على هواكم من عملات قديمة، مفاتيح نحاسية، وكل منتجات فن مهمل في المزادات والشوارع القديمة وعلى الأرصفة.
اجعلوا من مشاهد غربتنا، أنتيكا، في أذهانكم وحافظوا على استقرارها بداخلكم، ربما لن نعود قريباً للوطن.
يقول عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد بأن الجمال يولد بأشكال عديدة، غير زاويتك وستراه في كل مكان.
سيد فرويد لا ثَمة جمال في منازلنا بل موت مؤقت وإحساس متكرر بالهزيمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.