صورة انتشرت كالنار في الهشيم، يظهر فيها طفل بوجه جميل عليه بضع وتسعون غرزة وكدمات متناثرة حول عينيه، مع نظرة توحي بالثقة والاعتزاز. وعلى يساره أو قُل تحت جناحه الأيسر طفلة جميلة تشبهه في جماله وهدوئه، على محيا الفتاة ابتسامة لم أستطع فك شيفرتها رغم تأملي الطويل والعميق.
هل تتشفى في الكلب الذي هاجمها دون أن ينال من براءتها شيئاً، ودون أن يمسّ كبرياء أخيها وثقته بنفسه رغم ما فعله بوجهه؟ لا أعلم بالضبط سر تلك النظرة.
تقول القصة التي تداولتها وسائل الإعلام حول العالم إن الطفل أنقذ أخته من كلب شرس هاجمها على حين غرة، وكاد يلتهمها لولا تدخل أخيها الذي أنقذها من أنيابه ودفع وسامته ثمناً لذلك، وحين سُئل أجاب بلك عفوية: "إذا كان هناك شخص يجب أن يموت فهو أنا".
وأنا أتساءل: كيف لطفل صغير أن يتلفظ بهذه الكلمات؟
إن هذا الطفل يمثل بالنسبة لي "الإنسان الحقيقي" أو ذاك الإنسان الذي نريده، ولا تريده المنظومة المبنية على التزييف والخداع وبيع الوهم للعوام، والاسترزاق من أحلام الناس وآلامهم.
منظومة التدليس
إن التدليس والتزوير لم يتركا مجالاً لفطرة الإنسان كي تنمو وتزدهر؛ صرنا نرتشف الكذب والتدليس كما ترتشف الرئة الهواء. اليوم تبدو حياة المرء أشبه بكذبة، بل وذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبر الحياة كلها عبارة عن وهم يصنعه العقل. لم تعد الأفكار ذات قيمة مطلقة مذ فشلت الحداثة أو أفكار الحداثة في بناء مجتمع سلمي آمن، لقد غدت الأفكار مجرد سرديات وباتت الحقيقة شبه منعدمة؛ كما صرّح الفيلسوف الألماني نيتشه من قبل: "ليست هناك حقائق بل تأويلات". ولعل فيلم "المصفوفة" أو "The matrix" المستوحى من كتاب الفرنسي جان بودريار "المصطنع والاصطناع"؛ الذي ومن خلال أحداثه يكتشف البطل "نيو" أن العالم مجرد مصفوفة صنعتها الآلة، والعالم الحقيقي قد دُمر تماماً والبشر لم يعد لهم وجود إلا في مستعمرة وحيدة فقط توجد في عالم الأنفاق الذي يوجد بدوره في العالم الحقيقي. والذي يقوده نحو هذا الاكتشاف، رجل يأتي من عالم الحقيقة يتواصل مع نيو عبر الإنترنت ويخبره بحقيقة عالمه ويخيّره بين أن يذهب معه نحو الحقيقة أو أن يكمل حياته كما هي، مع وعد بأن يحذف كل ما سمعه ورآه من حقائق.
يختار نيو الحقيقة.. ولو كنت مكانه ماذا كنت لتختار؟ وهل الحقيقة أنفع أم الوهم والزيف؟ بالنسبة لبطلنا نيو أدت معرفة للحقيقة إلى موته في النهاية، لكنها لم تكن موتة عادية لقد فعل نيو ما فعله الطفل، ضحّى نيو بنفسه لكي تحيا البشرية، آمن بأنه إن كان هناك شخص يجب أن يموت في تلك اللحظة فسيكون هو. أليس هذا ما قاله الطفل!
هل غيّر كورونا طباعنا؟
يرى بعض الناس أن وباء كورونا ساهم في إيقاظ ضمير البشر؛ لكن البعض الآخر يعتقد أن الوباء لم ولن يفعل شيئاً يذكر أمام كائن خطير كالإنسان في العصر الحديث؛ كائن متنكر لكل ما هو أخلاقي؛ منفلت من المجتمع باحث عن فردانيته لو على حساب الآخرين بل ولو على حساب الكوكب.
لا تكفّ نشرات الأخبار عن تذكيرنا بأرقام الوفيات والمصابين حول العالم دقيقة بدقيقة، ولا نسمع حديثاً إلا وذكر كورونا، لقد صار كورونا الخطر الذي يهدد البشرية؛ وغطى بذلك الأخطار الأخرى، بل أضحت أمامه كذباب يهشه المرء بيده، وأدخلنا كورونا مجدداً في عالم "المصفوفة"، عالم الخداع والوهم، عالم ننسى فيه إنسانيتنا ونتحول إلى آلة تستهلك وتنتج، ولا تكاد ترتاح إلى أن تتعطل فترمى في مطرح النفايات أو يتم إعادة تدويرها.
والأهم أننا في عالم خائف من كل شيء حتى من أقرب الناس إليه؛ والأدهى عالم تبرر فيه الغاية الوسيلة. فما حدث في أوروبا من تضحية بالعجائز جراء استراتيجية مكافحة كورونا أحزننا جميعاً؛ كيف تضحي بمن بنوا حاضرك لكونهم عاجزين؟
ليس كورونا بالمرض الهين أو السهل، لكنه لن يكون مدمراً أبداً كالإنسان؛ ومهما حاولنا أن نبحث عن الحقيقة في هذا العالم فإننا نستسلم في النهاية لجمال الأكاذيب. وننساق وراء العيش وكأن لا شيء جلل يحدث، ونوافق على مضض أن الاستثمار في حياة على المريخ أفضل للبشرية من إطعام الجوعى وحفر الآبار للظمأى.
عدونا الحقيقي
ليس كورونا وحده من نواجه، إن عدونا الرئيس هو الإنسان المزيف، فعوضاً البحث عن الكائنات الفضائية، فلنبحث عن الإنسان الحقيقي الذي يحب إنسانيته ويدافع عن إنسانية غيره ولا يرضى أن يهان هو ولا يرضى أن يهان غيره. الإنسان الذي لا يحب الفقر لنفسه ولا للآخرين، ويسعى لأن يعيش الكل على القدر نفسه من العدالة الاجتماعية، ويرفض أن يقتل الجنين في بطن أمه باسم الحرية، كرفضه موت الناس باسم محاربة الإرهاب، ويرغب في أن يقضي يومه سعيداً لا بشقاء غيره، بل بفرحتهم.
إنني أبحث عن الإنسان الذي يفتح عينه على مشاكل مجتمعه الحقيقية؛ لا الذي يناقش طلاق تلك الممثلة من ذاك النجم، أو صراع المغني فلان مع صديقه القديم. الإنسان الذي يقاتل كلاب العالم من أجل أن تحيا أخته وأحباؤه بسلام.
طوباوية وأحلام يقظة
قد يبدو الأمر طوباوياً إلى أقصى درجة، فيقول القائل: إن الإنسان الذي تبحث عنه قد انقرض منذ زمن طويل، أو أنه حبيس روايات ألف ليلة وليلة وأفلام الخيال العلمي.
لكنني أقول: لا؛ لازال ذلك الإنسان حياً بيننا، لكنه لم يكتشف مزاياه بعد، لم يتعرف على أسراره وملكاته العظيمة. إنه مشوّش فقط؛ محاط بسور عظيم يحجب عنه الرؤية. لا يهم ما الذي يحدث له كل يوم، الأهم أنه لا زال على قيد الحياة.
ها هو ذاك الطفل أمامكم تفحّصوه جيداً؛ وتعلموا منه فهذا الطفل هو الإنسان الذي نريده ونبحث عنه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.