الفزاعة مستمرة
استخدم نظام مبارك، على مدار سنوات حكمه، جماعة الإخوان المسلمين كفزاعة، يخيف بها المصريين والغربيين من فكرة ابتعاده عن حكم مصر. تلك الفزَّاعة ساعدته على المكوث فترة أطول في سدة الحكم. 3 عقود ختمها مبارك بمقولته الضمنية الأشهر "أنا أو الفوضى". تغيرات كبيرة حدثت بعد ذلك في بر مصر، ووصل الإخوان للحكم بانتخابات نزيهة، في تجربة لم تكتمل.
وبعد أكثر من قرابة 7 سنوات كاملة على انقلاب الجيش على الثورة ومكتسباتها، أصبح من الصعب استخدام الإخوان كفزَّاعة سياسية وهو الذي يتباهى بالقضاء عليهم وسلب شوكتهم. لذلك كان لزاماً على النظام أن يبحث في دفاتره عن استخدام جديد لتلك الفزاعة، بصورة تناسب المرحلة، حتى يحقق أهدافه الخفية والجلية، في كتم أفواه من لا يسبح بحمده، ويطرب لكلماته البديعة، على ألحان أغنية "اللي ضحى لأجل وطنه لأجل ما يعود النهار".
تحكي الأسطورة ما قبل عام 2013 أن الإخوان المسلمين جماعة دعوية، تنتمي لتيار الإسلام السياسي، وتضم مئات الآلاف من الأعضاء، ومنهم ما يعرفه الجميع، مثل محمد البلتاجي وعصام العريان وخيرت الشاطر. لكن النظام المصري قرر أن يفتح باب العضوية للجماعة ويضم مَن يشاء من المصريين وربما العالمين، حسب ما تقتضيه الظروف والأجواء المحيطة. لكن قبل تلك الخطوة، ضم النظام الجماعة لمعسكر الإرهاب، وتعامل معهم على هذا الأساس، فشن حملة شيطنة ممنهجة، مستعيناً برجاله في الإعلام، فأصبح لديه جماعة إرهابية حسب ما يحب، وتتسع للجميع كيفما يريد، من كل الاتجاهات والأحزاب والأديان أيضاً. لذلك وبلا أي غضاضة، يخبرك النظام أن السياسي المعارض ممدوح حمزة إخوان، وأن الصحفي المسيحي سامح حنين ينتمي للجماعة أيضاً، وأن الطبيبة النقابية منى مينا إخوان، أسماء عديدة وعجيبة لا تتخيلها، ربما لو سألت أحد أبواق النظام عن الفريق سامي عنان قبل الانتخابات الرئاسية الماضية، لقال لك: هل تقصد الأخ سامي عنان القيادي الإخواني الكبير؟
محمد الباز يوضح لنا رؤية النظام في هذا الأمر بصراحة ووضوح في مقاله "كلهم إخوان" (المعركة واضحة جداً، لا لبس فيها، ولا غموض، إما أن تكون مع الوطن، أو تكون ضده، أما أن تكون فى صف مؤسساته، أو فى صف الجماعة التى تعمل على هدم هذه المؤسسات)، ببساطة إما أن تؤيد النظام أو تحسب على الإرهاب.
جمهورية الصوت الواحد
"تقدر تعارض ربنا وتشتم جميع الأنبيا فيها وتبقى عبقري.. لكن يا ويل ويلك إذا عارضت حتة عسكري".
الشاعر عبدالرحمن يوسف
بعد ثورة يناير/كانون الثاني كانت حرية التعبير في ذروتها، ملايين يعبرون عن رأيها بكل الوسائل المتعارف عليها، يدلون بأصواتهم في الانتخابات، ويعبرون عن أنفسهم في شوارع المحروسة، ويطرحون رؤيتهم لكل ما يدور في مصر عبر منصات التواصل الاجتماعي. لكن تشهد مصر الآن حالة عنيفة من تكميم الأفواه، وحجب لكل رأي يحاول أن يرى الأمور بشكل مختلف عما يراه النظام. بعد انقلاب 3 يوليو/تموز أصبح لا صوت سوى قرع الطبول، وأضحت مصر التي يتجاوز أبناؤها المائة مليون، تستمع لآراء أنصار السيسي ومن معه فقط، بينما البقية لا صوت لهم يُسمع، ولا رأي لهم يقبل. ضاقت دائرة التعبير في مصر لكن ظل هناك متسع صغير للأحزاب الليبرالية ونخبتها، مع شدة القمع والقرارات الخاطئة، حاولت تلك النخبة ممارسة حرية التعبير، فمارس النظام التنكيل بهم، فأصبحت مصر دولة المؤيدين فقط. لكن حتى ذلك لم يرضِ غرور عبدالفتاح السيسي الذي يرى نفسه طبيب الفلاسفة، فاعتبر رأيه هو فقط الرأي الصحيح والوحيد، ولا مجال للمناقشة حتى من معسكره المؤيد.. "ما تسمعوش كلام حد غيري" هكذا قال وهو يخطب في حب المحروسة. فتحولت مصر لجمهورية الصوت الواحد، صوت عبدالفتاح السيسي وحده، وأصبح من غير المقبول أن يعبِّر مصري عن رأي مخالف للسيسي، لأنه سيتحول إلى معارض لصوت مصر الصادق، والذي يعتبر نفسه مصر.
توزيع صكوك الوطنية
"أسقطنا 88 طيارة للعدو، أبشروا يا عرب نحن على أبواب تل أبيب"
كان الإعلامي أحمد سعيد يحكي للمصريين عن انتصارهم العظيم في حرب 1967 أثناء المعركة، يخبرهم بخسائر إسرائيل الكبيرة، وضربات مصر الموجعة للعدو، كان يخدعهم ويخدع نفسه، حينها كان أحمد سعيد رمزاً للوطنية وحب مصر. بينما من يقول عكس روايته الكاذبة، عميل خائن يهدم الوطن، خسرنا الحرب والحرية قبلها، وبقي أحمد سعيد مثالاً للكذب والخداع برعاية وإدارة النظام الحاكم.
في عام 2013 تولى العالم عصام حجي منصب مستشار لرئيس الجمهورية، وأصبح واجهة مصر العلمية الراقية، تكرم عليه النظام حينها بصك الوطنية، لكنه لم يعِ مع مَن يتعامل. فكر حجي في ممارسة مهام منصبه باعتباره مستشاراً علمياً لأعلى سلطة في البلاد، فانتقد "جهاز الكفتة" كما يطلق عليه المصريون، الذي ادعى اللواء إبراهيم عبدالعاطي قدرته على علاج فيروس الكبد الوبائي والإيدز. لكنه لم يرَ كيف احتفى النظام بالسيد اللواء، وأطاح بحجي خارج أسوار الاتحادية ومصر كلها. ومن ثم استرد منه صك الوطنية فصار من الخونة الأشرار أعداء الوطن. "دجال يبيع الوهم للمصريين والعرب باسم ناسا"، هكذا يصف إعلام النظام عصام حجي بعدما سحب منه صك الوطنية، على إثر ممارسته لحقه في التعبير ولو في صلب تخصصه العلمي. اكتشف الجميع بعد ذلك أن الكفتة لا تعالج المرضى، فقط تقدم لهم في وجبات الطعام. وأن الدجال الحقيقي كان السيد اللواء الوطني، وأن أحمد سعيد حي لم يمت، وأن النكسة ما زالت مستمرة، نحياها الآن، برجال الوطنية المزيفة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.