طالعت في الآونة الأخيرة عدداً من الكتابات والمقاطع المرئية التي توجه نقداً للفنان المصري عادل إمام وغيره من الممثلين بسبب ترويجهم لثقافة "التحرش" بين الشباب العربي. حيث يرى أهل هذا الرأي أن السينما والفن العربي مكتظة باللقطات والإيحاءات التحرشية؛ وهو ما عمل على تطبيع فكرة التحرش في المخيلة العربية، كون الإعلام من أهم أدوات صناعة الوعي في العصر الراهن. وعليه فإن هذه الأعمال الفنية أسهمت في تفشي ظاهرة التحرش في المجتمع العربي. ومع أنني أتفق مع أصحاب هذا التوجه من حيث أن هناك جزءاً كبيراً من الفن العربي زاخراً بعدد من الرذائل الاجتماعية مثل التحرش والتنمر والتشجيع على تعاطي المخدرات وغيرها؛ إلا أنني لا أرى أن شيوع هذه الظواهر وفي مقدمتها التحرش ناتج عن التأثر بما تعرضه السينما فقط، بل إن أسبابها أعمق من ذلك بكثير.
فالسينما هي إنتاج موجه للاستهلاك اللحظي كحال معظم الإنتاج في عصرنا الحالي، حيث أصبحت السلعة هي الوسيلة والغاية في ذات الوقت. فمثلاً تشكل السيارة حاجة ضرورية للتنقل واختصار المسافات والأوقات؛ إلا أن السباق المحموم بين شركات إنتاج السيارات لإنتاج نسخ محدثة من سياراتهم بشكل دوري ومُنتظر من قبل المستهلكين لم يجعل السيارة وسيلة لإشباع حاجة، بل أصبح امتلاك أحدث موديلات السيارات غاية في حد ذاته. إذن فالاستهلاك هنا هو الوسيلة والغاية اللامنتهية، فالرغبة في الاستهلاك متجددة باستمرار ولا تتوقف، وإشباع الرغبات هو إشباع مؤقت "حتى إشعار آخر"، أي حين تُطرح النسخة الأحدث من السلعة المستهلكة. وهذا حال معظم السلع في عصرنا الحالي التي تكون معظمها مرتبطة ببرامج "تقادم مبرمج" حتى يتم تسريع عملية خلق الرغبة في الاستهلاك. والحقيقة أن هذه الفكرة هي لعالم الاجتماع زيجمونت باومان في تنظيره لعصر الحداثة السائلة، وهي تعرض بدقة التزاحم الاستهلاكي الذي نتج عن تحول الحداثة من صيغتها الصلبة إلى الصيغة السائلة كما يصفها.
وبالعودة إلى السينما باعتبارها سلعةً استهلاكية، فإنني أرى هنا أنه لا يمكن الفصل بين التطورات التي تشهدها المجتمعات وبين المعروض من السلع. فرجل الأعمال "الرأس مالي" الذي ينتج الأفلام مهتم بالدرجة الأولى بتحقيق الأرباح، وهذا لا يتعارض مع فكرة أن الأفلام والإعلام كثيراً ما يطعّم بقيم وأفكار موجهة، ولكن مع ذلك يبقى الهدف الأساس هو تحقيق الربح. ومما لا شك فيه أن هناك حكومات تعمل على خلق إعلام وأفلام ومسلسلات تحمل رسائل مبطنة؛ إلا أن المستهلكين اليوم غير مضطرين لاستهلاك السلع الإعلامية الحكومية، فالعصر الذي كان فيه التلفاز أو المذياع لا يحتوي إلا على بضع قنوات تتولى الدولة إنتاج محتواها قد ولّى منذ زمن، وحل محله العصر الذي يحتوي فيه التلفاز على مئات القنوات التي تعرض ما يناسب ذوق المستهلك، عدا عن وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية التي تقدم منتجاتها للجمهور بشكل يتخطى سلطة الدولة والمجتمع.
وعليه فإن الأفراد المستهلكين اليوم لديهم خيارات متعددة فيما يستهلكونه من أفلام ومحتوى إعلامي، ولذلك من الصعب أن ندعي أن الإعلام ينتج الثقافة، وإنما قد تكون الحقيقة هي أن الثقافة هي التي توجه خيارات الأفراد نحو ما يستهلكونه من إعلام. فالسؤال إذن هو: ما الذي يدفع فرداً ليس ملزماً بمشاهدة إعلام محدد إلى اختيار نوع معين من الإعلام؟
وبناءً على ذلك، فإنني أرى أن الأفلام والمسلسلات وغيرها ليست هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن تفشي الرذائل الاجتماعية، مع أنها قد تعمل على تعزيز هذه الرذائل، إلا أن حصر أسبابها بها إنما هو تجاهل للأسباب الأعمق التي يجب أن تنصب الجهود على معالجتها حتى لا ينتج هذا النوع من الإعلام.
وأستعير هنا من كارل ماركس الذي يرى أن الثقافة والفكر هما بينة فوقية للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل البنية التحتية التي تُبنى عليها تلك الأفكار. فلا يتم شيء بمعزل عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها المجتمعات. وقد أسهم لاحقاً سلفادور أليندي، الطبيب وأخصائي الأوبئة، الذي أصبح رئيساً لتشيلي 1971، في تأسيس ما بات يُعرف بـ"الطب الاجتماعي"، حيث تقوم نظرته على اعتبار أن للأمراض الصحية جذوراً اجتماعية تتمثل في الفقر والبؤس والتخلف الاكتظاظ السكاني وغيرها من المشاكل الاجتماعية.
فقلة الأجور وساعات العمل الطويلة وسوء التغذية، وهي قضايا ناتجة عن التخلف الاقتصادي والتبعية السياسية، تشكل عاملاً حاسماً في تفشي الأمراض وتردي قطاع الرعاية الصحية للمواطنين. كما أنه قدم تحليلاً للأسباب الاجتماعية التي تؤدي إلى إدمان الكحول متمثلاً في الظروف الاجتماعية البائسة التي يعاني منها المجتمع، وقد ربط ذلك مع الأمراض الناتجة عن إدمان الكحول مثل تشمع الكبد وحوادث السير. وعليه فإنه رأى أن محاولة تحسين القطاع والخدمات الطبية لن تؤدي إلى علاج جذري للأمراض إذا لم تقترن تلك المحاولة بمعالجة المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الصعيد الكلي.
وباستحضار مدخل الطب الاجتماعي في التعامل مع الرذائل الاجتماعية، فإن هناك أسئلة عديدة تثور حول هذه الرذائل، فلماذا تحدث حوادث التحرش الجنسي في الأحياء الفقيرة المكتظة "أحزمة البؤس" التي تعيش على هوامش المدن؟ وهل البطالة والظروف الاقتصادية القاسية والكبت يمكن عزلها عن السياق الذي تحدث فيه هذه الرذائل الاجتماعية؟
أكثر المعلومات التي تثير سخريتي هي أن المجتمعات العربية تعد أكثر المجتمعات مشاهدة للأفلام الإباحية، وهذه النسبة طبيعية جداً، ولو أن هذه النسبة معكوسة لقلت إنها غير صحيحة، ولكن لا يمكن عزو هذه الظاهرة إلى الثقافة التي تبثها الأفلام والمسلسلات الهابطة! أو قلة الوازع الديني فقط. فالمجتمعات العربية مجتمعات فتية شابة، كما تعلمنا منذ صغرنا في المدارس. ونسبة البطالة مرتفعة بين الشباب فيها، وما هو متوفر من الوظائف يعود بدخل قليل على الفرد لا يمكنه من القيام بكل الأعباء المطلوبة منه. وحيث إن العالم قد تخلى عن فكرة "دولة الرفاه" ومسؤولية الدولة الاجتماعية وتحولَ إلى الدولة النيوليبرالية التي يتولى الفرد "الحر" فيها مسؤولية رفاهه وحياته كلها، فإن الشباب العربي اليوم مطلوب منه أن يواجه الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة بمفرده. وهنا تبدو الحياة كأنها متوقفة أو فارغة، فلا عمل، أو لا جدوى من العمل.
وكما هو معلوم، فإن الزواج هو الطريقة الشرعية الوحيدة التي يستطيع الفرد في العالم العربي أن يمارس الجنس من خلالها تماشياً مع الثقافة الإسلامية التي تظلنا. وكما هو معلوم أيضاً، فإن الزواج قضية باهظة ومعقدة جداً، وتتطلب من الشاب في مقتبل عمره أن يتوفر له منزل وتكاليف المهر والزواج الباهظة، وهذا طبعاً ليس بالأمر السهل بسبب الظروف الاقتصادية المعلومة، وبسبب تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي وترك الأفراد ليتدبروا شؤون حياتهم أيضاً. وعليه فإن الشباب العربي يقع بين فكي كماشة هنا: فهو لا يستطيع الزواج بسبب عدم مقدرته على تأمين تكاليفه من جهة، ولا يستطيع أن يمارس الجنس أو العلاقات العاطفية "غير الشرعية" بحكم انتمائه للإسلام ديناً وثقافة من جهة أخرى، وهنا تتولد حالة من "الكبت" التي تتجلى أعراضها في التحرش الجنسي، ومشاهدة الأفلام الإباحية وغيرها. كما تنتشر ظواهر مثل تعاطي وإدمان المخدرات والكحول للهروب من الكبت والبؤس والأوضاع الاجتماعية الخانقة والبطالة. فماذا يُتوقع من الشاب العاطل عن العمل، أو الشاب الذي لا يستطيع أن يحرز أي تقدم في حياته؟ فماذا سيفعل في هذه الحياة الفارغة؟ وكما هو معلوم فإن "الطبيعة لا تقبل الفراغ"، "والسياسة لا تقبل الفراغ"، وكذلك الحياة والأعمار لا تقبل الفراغ، وإن لم تُملأ بالعمل وتلبية الحاجات الفردية المترافقة مع التقدم العمري، فإنما بلا شك ستملأ بأشياء أخرى.
وفي المحصلة، إن هذه الظواهر تتفاوت بين مجتمع عربي وآخر، وهذا متعلق بطبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية في كل مجتمع، فعند الحديث عن ظاهرة التحرش الجنسي في مصر مثلاً علينا ألا ننسى هذا الرقم مطلقاً 100 مليون، وهو عدد الشعب المصري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.