بمناسبة صعود مسلسل "الاختيار" إلى قمة جبل "التريند" وتصدُّر بطولات المرحوم قائد الصاعقة أحمد منسي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، واحتدام النقاشات الطافحة بالوطنية، أعتقد أن هناك كلاماً مهماً يغيب عن هذه اللحظة التي نعيشها، كلام يجب أن يقال بشكل أو بآخر.
ظاهرة العنف في مصر، أي العنف ضد الدولة، له أصول وأسباب كثيرة، على سبيل المثال، إغلاق كل منافذ المعارضة، وسحق كل ذي رأي إن خالف مذهب الدولة في هذه المسألة أو تلك. ومن ضمن أسبابه، أيضاً، خطاب ديني يزدهر في أوقات الملمات والمحن ويتقلص جداً في أوقات الرخاء. ولا يخفى تدليس الدولة المصرية، واعتمادها على خطاب ديني مقابل يبرر قتلها للناس وسحقها لهم ولحرماتهم، خطاب يقول للمصريين إن الحاكم له السمع والطاعة وأنه مؤيد من الله وأن معارضيه ناس نتنة وطوبى لمن قتلهم وقتلوه. ما يزيد الطين بلة، هو أن هذا الخطاب يسري على جميع أنواع المعارضين، سواء كانوا عزلاً من السلاح في اعتصام سلمي، أو مجرد شبان مقبوض عليهم لأي تهمة، فيعذبون لشهور قبل أن يرموا في الصحراء وصدورهم تخضب بالدماء، وانتهاء بمسلحين هدفهم المعلن إسقاط الدولة.
أما أهم أسبابه من وجهة نظري فهي الحصانة المطلقة والنهائية لمرتكبي الجرائم والتي تدفعهم للمغالاة في الإجرام وسفك الدماء، دون خوف من رادع أو هاجس من تحقيق العدالة يوماً ما. وكأن لا أمل في تحقيق العدل، ولا فرصة للحساب على الأرض.
ما جعل خطاب العنف باقياً ويتمدد حتى اللحظة هو حجم المظالم التي قامت بها الدولة ضد المصريين، وقطعها لكل مسارات التقاضي وتحقيق العدالة. وبالرغم من تحقق كل ظروف انتشار العنف والإرهاب بما في ذلك عنف الدولة وبطشها، لكن لو وجدت مسارات مفتوحة للتقاضي وللحساب العادل، ما كان هذا العنف ليجد أرضية صلبة يبني عليها جمهوراً يؤيده أو يسمع له.. ما كان ليزدهر ويترعرع في وادينا كل هذا العنف والإرهاب.
الدولة، أي دولة، لما تأسست، تأسست بوعد بسيط جداً: الحماية مقابل احتكار السلاح. أي أن الدولة تحمي الناس والمجتمع، في مقابل سماح المواطنين وموافقتهم على امتلاك الدولة لأدوات القوة والعنف. لكن، على وعد بعدم استخدامها إلا بشكل شرعي وفقاً للقانون المتفق عليه من الدولة والمجتمع.
لكن ما حدث بعد ذلك في حالة الدولة المصرية، هي أنها أعطت ظهرها للناس، وصارت مصالحها تتعارض مع مصالح الأغلبية، فقررت استخدام العنف لحماية نفسها من الأغلبية الغاضبة. ولما انتخب المجتمع، فرداً منه ليكون رئيساً، انقلبت عليه الدولة، وحبسته وقتلت مؤيديه، وقتلته هو شخصياً بعد ذلك.
وعلى فترات متتالية، عدلت الدولة القوانين، وسيطرت على الدين الذي كان بمثابة مرجعية للناس وقادراً على منحهم أملاً في تحقق عدل في الدنيا أو الآخرة. كما نظمت الدولة نظاماً قضائياً وعدت بأنها تحمي وتصون حقوق الناس، لكن لما تعارضت المصالح، سيطرت عليها وجعلتها سيفاً في يدها على رقاب المجتمع. ولما قدر الناس على امتلاك أدوات قوة خاصة بهم، مثل وسائل إعلام، أغلقتها الدولة أو حجبتها.
وعندما تمارس الدولة كل هذا الكم من العنف المادي والنفسي، تحتاج إلى تقديم وعود للمؤمنين بها والموافقين على أفعالها. مثل إحكام القبضة الأمنية وإغلاق منافذ السياسة مقابل نقلة نوعية في مستوى المعيشة. أو وعد بقرب انتهاء الإجراءات الاستثنائية وعودة الحياة لطبيعتها في أقرب فرصة ممكنة بعد تحقيق شروط التنمية مثل خلق فرص عمل وارتفاع المرتبات. لكن الدولة المصرية فشلت في تحقيق أي وعد قطعته على نفسها، فلم تقدر على حمايتهم، ولا وفرت فرص عمل ولا رفعت مستوى المعيشة ولا حتى استطاعت استعادة مستوى معيشة كان السائد قبل عقد من الزمان.
ومع الفقر والمرض والإجرام وغلق مسارات المحاسبة على الجرائم التي ترتكبها الدولة، وجد بعض الناس المتضررين من أفعال الدولة أو الغاضبين منها، خطاباً دينياً يخبرهم أنهم قادرون على رد الظلم بأنفسهم، والثأر والقصاص ممن اعتدى، وإن هم قتلوا أثناء ذلك أو ماتوا على ذلك، سيدخلون الجنة.
وجهة النظر هذه ينظر لها عالم السياسة والاجتماع الفرنسي أوليفييه روا. يقول روا إن أسباب العنف سابقة على الخطاب الديني، وأن التطرف موجود لأسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية، لكنه يحتاج الخطاب الديني حتى يقنع الناس الذين سيموتون على الأغلب في صراعهم مع الدولة، أنه يجب أن تكون حياتهم غالية وأن لا يموتوا بالمجان، وأنه يمكن إيلام الدولة كما تؤلمهم. يطلق روا على هذه الظاهرة "أسلمة التطرف". بمعنى أن العوامل المؤدية إلى العنف كلها موجودة، ، بدون الخطاب الديني الذي يأتي لاحقاً ويسقط عباءته على حالة العنف.
ما يقوله أوليفييه روا مناسب جداً لتفسير العنف المستمر في سيناء من بعد 2013. لكن هذا لا يعفي من انتهجوا العنف من مسؤولية أفعالهم وإن بحثنا وسبرنا أغوار الأسباب التي دفعت بهم إلى ذلك. الأسباب التي زادت وتعززت جداً بالأسلوب الذي تصرفت به الدولة مع "الإرهاب" الذي تحول من محتمل لواقع، عن طريق التهجير والقتل خارج نطاق القانون والإخفاء القسري وهدم البيوت والتعذيب والسجن بدون مسوغات قانونية وغيرها من الأساليب.
أكتب هذه الكلمات لأن كثيراً من الأصدقاء، والمعارضين أصحاب المواقف النبيلة في وجه الانتهاكات التي تحدث في مصر، لا يرون غير الثنائيات التي تستخدمها الدولة (نحن وهم) و(الإرهابيون)، وغير قادرين على تفسير أو رؤية الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه النقطة. هنالك عنف مدعوم بخطاب ديني، لكن هذا العنف لم يكن موجوداً دون دور الدولة، لذلك أي كلام عن الإرهاب والجيش لابد أن يبدأ وينتهي عند الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.