ديارنا في العيد

عدد القراءات
3,590
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/22 الساعة 11:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/22 الساعة 11:48 بتوقيت غرينتش

خراطيم مياه، سجاجيد، كراسي الأنتريه عارية من ثيابها، الأسرّة بلا مراتب، والمراتب بلا ملاءات، والملاءات بلا وسائد، والوسائد بلا أكياس، الطاولة بلا مفرش، التلفاز اختفى فجأة، النوافذ مفتوحة على مصاريعها، والستائر، أين ذهبت الستائر؟ البيت عبارة عن بركة مياه، أسأل أمي عن بدلة الغطس، فأجد شبشبها في عيني، تزعق وتهددني بالفردة الأخرى، يبدو أن أحداً هنا لا يطيق نفسه حتى، إذاعة القرآن الكريم أعلى من أي وقت مضى. كانت التجهيزات التي أراها لا توحي أبداً أن بيتنا يستعد للعيد، وإنما على الأقل سيُرشح لاستضافة كأس العالم.

ساعات ويصبح البيت "على سنجة عشرة"، لا تستطيع الربط بين شكله قبل وبعد، وتقول سبحان الله، حين نظّم الكون وضع سره في أيادي الأمهات. فقط أعطِها سماءً مطبقةً على الأرض، وطيوراً تعوم، وأسماكاً تطير، وبشراً يمشون على أربع، وحيوانات تأكل بالشوكة والسكينة، وبيتاً لا تعرف مطبخه من حمامه من صالونه، وهي ستتكفل بكل شيء، وستسلمه إليك قصراً في ظرف ست ساعات، الحوائط كأنها دُهنت من جديد، والغرَف أُثثت للتو، والستائر جديدة، والنوافذ تستورد الهواء من مكان غير شارعنا، ورائحة البيت تدفعك إلى الشك بأن أمك نقلته إلى شارع العطور في باريس.

الفرن الآن ليس مركز الدار، وإنما مركز الكون، محور المجرة، تتحلق أمامه نساء البيت وفي أياديهن المناقيش -الأدوات المستعملة في نقش الكعك-، يشكّلن العجين بأياديهن الماهرة، يضعنه في الصاج بنظام، يبدو عليه الغنى بالسمن البلدي، ويدخل الصاج إلى الفرن، ليعبئ البيت برائحة فاضحة، تفعّل غريزة الجوع والانتظار، وتغذَي شهوة تخيل الكعك والبسكويت في الفم، وتسمح للزمان بأن يطير بك إلى كل عيدٍ فات، وفي أذنك تغني أم كلثوم شخصياً: "يا ليلة العيد، آنستينا، وجددتِ الأمل فينا، يا ليلة العيد".

الكعك خرج بالسلامة من الفرن، الرائحة التي تغزو رئتيك تجعلك تغمض بينما تقضم الكعكة بين فكيك، فلا تدري من الذي يذوب في هذه اللحظة، أنت أم الكعك، كل حواسك تتضافر لتشترك في هذه الجريمة، تقتل الكعكة بينما تحيي كل شيء فيك، فتشعر أنك تستنشق في رائحتها أنفاس اللائي أعددنه، وأنك تصافح في ملمسها الساحر يد أمك، وأنك تتذوق في طعمها كل شيء حلو، كل سكر الدنيا ملخص هنا، في الساحرة المستديرة.

رائحة أخرى تتصاعد الآن من المطبخ، مع صوت الزيت، وتكبيرات العيد القادمة من التلفاز أو الراديو، رائحة أصابع الكفتة، التي تنتظر اللحظة الحاسمة لتسرق منها بينما أمك تعد أصابع أخرى، وفِدا أصغر صباع كفتة أكبر لغزة أو لكمة أو قَرصةٍ ستتلقاها من ست الحبايب، لا بد من دفع الثمن لأن "الموضوع يستاهل".

وخناقة العيد، وما أدراك ما خناقات العيد، معارك لو سُخرت لفتح بلاد الله لفتحتها في تلك الليلة فقط، تدور المعركة الأولى من أجل الحمام، من يدخل أولاً، والذي دخل متى يخرج، والذي سيدخل بعده سيتسغرق كم دقيقة، ولا بد أن أحداً ما سيدخل الحمام وينسى نفسه، وينسى أهله، وينسى البيت وكل من فيه، وتصم أذنه عن الطَّرْق الذي يكاد يكسر الباب، ويضرب بكل التهديدات عرض الحائط، إلى أن يأتي تهديد الأم بفتح باب الحمام عليه، أو قطع المياه، أو فصل السخان، وحينها سيقسم بالله -وهو في الحمام- أنه الآن يرتدي ملابسه وسيخرج خلال دقيقة.

الخناقة الثانية ستدور على المكواة، من سيكوي ملابسه الليلة ومن سيكويها فجراً، هذا يريد الانتهاء منها الآن لأنه لا يطيق التأخير في الصباح، وهذه تريدها في الصباح وهو يدعوها لأن تكوي بعده حتى لا يتأخروا عن الصلاة، وهي تشترط للكيّ الآن أن تكون هي أول من يفعل، فتضجر المكواة من هذه المخلوقات المزعجة، لتضع نقطة نظام تصعقهم جميعاً وتعاقبهم عقاباً سماوياً فورياً، بحرق أجمل الفساتين، وحرق دماء كثيرة في ذلك البيت المسكين. رفعت الأقلام وجفت الصحف.

أغاني العيد جزء لا يتجزأ من طقوسه، حتى ولو سيمنعنا حضرة الفيروس التاجي من الاحتفال ككل عام خارج البيت، فإنه لن يقطع الطقوس داخل البيت بأي حال؛ السيدة صفاء أبو السعود تنتشر في كل مكانٍ الآن، تقول: "العيد فرحة وأجمل فرحة تجمع شمل قريب وبعيد"، ومعها متلازمة "سعد نبيهة"، الذي اكتشفنا مؤخراً أنه شخصية خيالية من وحي اللحن السريع، والأصل أنه "سعدنا بيها"، أي سعدنا بليلة العيد "بيخليها ذكرى جميلة لبعد العيد".

وتتجلى الست: "حبيبي مركبُه تجري، وروحي في النسيم تسري، قولوا له يا جميل بدري، حرام النوم في ليلة العيد"، ونأخذ بفتوى أم كلثوم فلا ننام في ليلة العيد إطلاقاً، ونعمل بوصيتها حتى يؤذن الفجر، ويصدح صوت الإمام بعد الصلاة: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد"، وعلى وقع التكبيرات يعود الأب والأولاد الذكور من صلاة الفجر -هذه المرة سيصلونها في البيت- ويرتدي الجميع ملابسه الجديدة، ويتأبط الأب سجادة الصلاة لأن الساحة لن يكون بها عدد كافٍ من الحصر والسجاجيد.

في اللحظة ذاتها سيصطفّ الجميع ليقبل أيدي الكبار، أيدي الأب والأم والجدة، متبادلين التهنئة بالعيد، بمن فيهم أحد الصغار الذي سيسأل عن العيدية الآن، ليقطع الدقيقة الشاعرية بسؤال ماديّ بحت، يبيّن أن قبلته على يد والده لم تكن من باب البر، وإنما الاستدراج.

وفي تلك اللحظة المهيبة لخروج الموكب من المنزل إلى الحوش الكبير، ستنطفئ نيران خناقةٍ جديدة بستر الله، بسبب التأخير المعتاد، وبسبب إحدى بنات البيت التي قررت فجأة أنها غاضبة ولن تذهب إلى الصلاة بسبب حذائها الضائع في ظروف غامضة، ولدينا عيد وصلاة عيد خلال دقائق يا ست سندريللا، فتعطف علينا -الجزمة- في الوقت الإضافي بأن نذهب جميعاً دون أن يتخلف أحد، والحمد لله.

وحتى لا ننغص على أنفسنا فلن نأتي على ذكر العيدية ولا الخروج للشوارع، في أيام مفترجة كتلك، وأيام صعبة كتلك أيضاً، يكفينا ما ذكرنا من الطقوس داخل البيت، التي لا يمنعها أي مانعٍ يلمّ بالدنيا، والتي تتوارثها الفتيات الصغيرات والصبايا من النساء، حتى يصبحن نساءً هن الأخريات وربات بيوت، فيفعلن ما كانت تفعله أمهاتهن، وما العيد؟ العيد هو الذي يكون في البيت لمدة يومين أولاً قبل صلاة العيد.

وبالتأكيد، العيد موجود في كل بلد، وفي كل بلد شعبٌ وقور، يستقبل المناسبات بحفاوة وهدوء، لكن شعبنا مهذار بطبعه، شعب صخب، ولا يعرف عن الهدوء شيئاً حتى في بيوت العزاء، ولذا، ستشعر حتماً إن أذِن الله لك بقضاء العيد في مصر، أنه خُلق للمصريين. وإذا كان خير مكانٍ للتعبد والصيام في بيت الله الحرام، فإن خير مكانٍ للعيد في بيوت الشعب المصري.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد