لقد توغل سلطان الفلسفة في النظر توغلاً ألغى كل اعتبار للخبر باعتباره محلاً لا علاقة له بطرق الاستدلال المعروفة، وموضعاً لا صلة له بسبل الاستشكال المألوفة، لأن للنظر الفلسفي روافد لا يرى إلا بها، وقواعد لا يتعقل إلا بها، حتى إذا ظهر نظرٌ غيرُ نظرِه في الاستدلال سارع إلى الحكم بتَهافُتِه، وإذا برز عقلٌ غيرُ عقلِه في الاستشكال سابق إلى القضاء بتَفاهـتِه.
لكن ما غاب عنه هو إمكانية أن يختزن ما حكم عليه، من طاقات النظر، فوق ما يختزنه، وإمكانية أن يكتنز ما قضى عليه، من إتاحات العقل، فوق ما يكتنزه. وهذا يعني أن الفلسفة بقدر ما ادعته من تأسيس للمقولات الكلية والمعايير العامة بقدر ما كانت في حقيقتها تعبر عن مقولات جزئية ومعايير خاصة، وذلك لوثيق ارتباطها بالفضاء الذي أنتجها، ولعميق اتصالها بالتداول الذي أفرزها، ذلك بأن الفلسفة لم تكن إلا صورة عن الوضعية الاجتماعية القائمة، داخل صيغة عقلية صارمة قد تحمل بذور قيام وضعيات نقيضة لما تصوره، لكنها تبقى وفية دائماً للوضع الاجتماعي والمؤسسي الذي ولّدها.
ففلسفة أفلاطون ومدينته الفاضلة لم تكونا إلا انعكاساً لطبيعة المدينة اليونانية التي سعت هذه الفلسفة إلى تسويغها مساغاً عقلياً داخل قوالب من المقولات والتصورات والتصديقات. وإذا قدِمنا إلى العصر الحديث وجدنا الأمر مِثلاً بمِثل، ففلسفة (ماركوز) لم تكن هي الأخرى إلا تعبيراً عن وضعية الانهيار التي عاشها الإنسان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية سطوة التقنية والآلة.
وهكذا نجد أن الفلسفة لم تتخلص من جزئيتها الاجتماعية وخصوصيتها التداولية بالرغم من ادعائها الكلية والعمومية، هذا زيادة على ما فيها من صرامة وتجريد قد يؤديان بها إلى خلاف المقصود منها، فغرقت في بحر من الأسئلة القاصدة وغير القاصدة حتى أصبح همها في إنتاج السؤال لا في إتقان الجواب، وبذلك أمست الأسئلة عندها أنجعَ من الأجوبة، وعلى فرض وجود الجواب فليس إلا محطة استراحة أو أرضية لسؤال جديد يتناسل ويتوالد، ولعل هذا ما دفع (كارل ياسبريس) إلى القول بأن الأسئلة في الفلسفة أهم من الجواب، وكل جواب يتحول إلى سؤال جديد.
أمام هذه السديمية الغامضة والنسقية المتنطعة، كان لا بد من تطعيمٍ لهذه الفلسفة كي يتسنى لها تحديد الاتجاه وتسديد المنهج ومن ثمة قطف الثمرات، خاصة وأن أغلب أسئلتها يتعلق بالإنسان والوجود والزمان والمكان والميتافيزيقيا وعلاقات كل تلك العناصر ببعضها.
إن العجيب في الأمر هو أن كل الموضوعات السالفة التي تعاملت معها الفلسفة بواسطة السؤال، هي نفسها الموضوعات الموجودة في الأدب الذي لا تعترف الفلسفة بطرقه الاستدلالية ولا تأتلف مع سبله الاستشكالية، ليقينها بانعدام عقله حيث تملكه، ولإيمانها بقوة خياله حيث تستغني عنه، وهكذا غاب عنها أن "الحسيات معابر إلى العقليات" على حد قول (أبي حيان التوحيدي) في المقابسة العشرين من مقابساته، كما عبر عنها أن في الأدب طاقة ترتقي بالعقل الفلسفي إلى إدراك جواهر المعاني وحقائقها، بحيث إنه يفتح آفاقاً في معرفة الوجود، ويخترق مسالك مُبكِّراً إلى اكتشاف مجاهيل الموجود.
لقد كان الأدب دائماً سعياً يقتفي أثر المجهول، وأبطاله كائناتٌ سائلةٌ تتأبى على الحواجز الجامدة، وتثور على القوالب الجاهزة، ولما كان العقل الفلسفي أداةً صلبة تمنعه صلابته التجولَ في الكثير من المضايق، وآلةً صلدة تدفع عنه صلادته اقتحام العديد من المغالق، كان لا بد من الاستعانة بالأدب في تقويم الفلسفة، ذلك بأنه قادر على توسيع العقل وتمرين النسق لِمَا في الفعل الأدبي من إمكانيات تجدد الفعل الفلسفي، لكونه يمتاز بالمبادرة إلى سَبْر العوالم غير المألوفة، وينماز بالمباكرة إلى رَوْز الممرات غير المعروفة، حتى إذا اجتمع العقل الفلسفي والحس الأدبي، كان الجمال ووُجِد الكمال.
وحينئذٍ يكون الحس الشعري الذي هو أرقى مراتب الأدب، بمثابة الحُلَل والمَعارِض للعقل الفلسفي الذي هو أعلى مراتب النسق.
ويجب ألا يُفهم من هذا أن الحس الشعري لا عقلَ فيه، ذلك بأن عقله عقل رابط، واللغة دلّت على ذلك في أحد معانيها المتعلقة بمادة (عقل)، إذ نقول: عقَل الناقة بمعنى ربطها، وبذلك يكون العقل الشعري عقلاً موصولاً بالحس والحواس ظاهرِها وباطنِها، ففي السمع عقل، وفي البصر عقل، وفي اللمس عقل، وفي القلب عقل، وهكذا. والقرآن الكريم بيّـن هذا ومثاله قول الله تعالى: (أ فَلَمْ يَسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور).الحج/44.
وإذا ثبت أن للحس الأدبي عقولاً عديدة وللنسق الفلسفي عقلاً واحداً هو العقل الصلب، لزم معه التسليم بقوة الحس الأدبي مقارنة بالنسق الفلسفي، إذ العقول الكثيرة تغلب العقل الواحد، ولعل هذا ما حدا بـ(نيتشه) إلى الإلحاح على عودة الفلسفة إلى أحضان المشاعر والعواطف في كتابه "ميلاد التراجيديا" من خلال مداخل الفن والجمال، حيث جعل من الموسيقى حساً جدد به مفهوم التراجيديا الفلسفي، متجاوزاً سلبيته وتشاؤميته، إلى مفهوم متعالٍ حالمٍ يتحدى الموت ويعشق الحياة.
ومثل هذه التجربة عاشها (هيدجر) ولكنه استلهم من شعر (هولدرلين) ما يخفف به صرامة النسق وتنطع العقلانية الفلسفية، التي تحولت بحكم غُلُوِها في بناء القواعد إلى سجن للإنسان الذي وجد في الحس الشعري وسيلته إلى الانعتاق والعودة بالشخصية إلى الحرية التي تميزها، إذ انطلاقة الشعر تكمن عند حدود العقل الفلسفي.
داخل هذا السياق تأتي رواية "عبد الرحمن والبحر" للدكتور (خالد حاجي) مساهِمةً في ترسيخ أدب الفلسفة من خلال صدورها عن رؤية فلسفية عميقة بثت نفَسَها داخل الأحداث والأشخاص والأفضية، ونشرت مدَدَها في السرد والحكي والوصف، ومن خلال تلك الرؤية أعادت صياغة المشكلات، وتتبعت مُحَرِكاتِ السلوك والتصرفات، كما استشكلت عدة مفهومات، منها إشكالية المدينة وقضية العمران، والبداوة والحضارة، ومنها إشكالية صراع الحداثة مع التراث ومحاولة تقويم حركتهما في التاريخ وفرضية التصالح بينهما واستشراف المستقبل.
هذا بالإضافة إلى قيمة البعد التعبدي والروحي عند الإنسان في مواجهة القوارع والآفات، وإشكالية الفن وغياب الذوق، وإعادة صياغة الهُوية والجهل بالعالم، زيادة على صراع الأجيال ومشكلة الظلم والعجز، وتكلُّس الحس الشعري.
تلكم إشكالات لو صاغها صاحبها في القالب الفلسفي لجاءت عبارة عن بناء متطاول لا يزيدنا التنطع فيه إلا محدودية وضيقاً، ولهذا آثر الكاتب أن يتوسل بالصياغة الأدبية للمقولات السابقة بغية الخروج بنا من مغاليق الفلسفة إلى مفاتيح الأدب، ومن مضايق البرهان إلى شساعة البيان.
إن أول ما قام به الروائي للتخفيف من حدة النسق، هو تَسْحِيرُ العالم، من خلال تحريك الحس الشعري لدى الأبطال بناءً، ولدى القارئ صياغة، فأعاد الحياة إلى مشاهد الجمال، وأبرز الكمال في شواهد الجلال، وبالجملة، أعاد للعالم سِحْرَه، وأثار في الإنسان اندهاشه، فكأني به يريد أن يصل بنا إلى درجة الإحساس بمعنى قول "سبحان الله" حينما نرى منظراً يسحرنا، لئلا نغفل عن وجداننا فنأفـل من وجودنا، وكما يقال "من غفل أفل".
وهكذا يتبدّى لنا كيف تسنى لعقل الحس الشعري أن يفكنا من صلابة العقل الفلسفي ذي الاتجاه الواحد، من خلال عَقْلِنا بالعالم ووَصْلِنا بعناصر الحياة.
لقد عالج الروائي في عمله إشكالية المدينة الحديثة في العالم العربي، مصوراً إخفاقها في التوفيق بين البداوة والحضارة، وبين الفعل الإيديولوجي وأثر الإنسان، بالإضافة إلى تصوير هندستها المقززة التي ساهمت في الهدم أكثر منها في البناء، إنها مدينة تبعث على الاشمئزاز والنفور، ولا تُذَكِرُ إلا بغياب الحس الشعري لدى أولئك الوافدين من أوروبا على أرض الهنود الحمر، حيث سارعوا بحكم العقل الفلسفي الذي يحكمهم إلى إعدام التفاعل مع الفضاء الجديد الذي جابههم، فأصبحوا سجناء ذاكرتهم، ولذلك سمَّوْا مُدنهم في عالمهم المُكتَشَف باسم مدنهم في عالمهم الأصيل، ولم يضيفوا إليها إلا سابقة (نيو) أي جديد، من أمثال (نيويورك) أي (يورك الجديدة) التي تحيل على (يورك) القديمة إحدى مقاطعات إنجلترا، ومنها (نيوجيرسي) و(نيوزيلاندا) وغيرها كثير.
لقد أحس الشاعر الأمريكي (والت ويتمان) بفداحة هذا الأمر، فأشار إلى أن السكان الأصليين من الهنود الحمر كانوا أكثر شاعرية من الوافدين، وأعظم إحساساً منهم بسحر المكان، وإلا لَمَا كانت (نيويورك) عندهم قبل هذا الاسم تُسمّى (بومانوك)، ومعناها عند الهندي الأحمر الأرض التي تأخذ شكل سمكة.
إن الحس الشعري بالعالم هو الذي عَقَل بين الفضاء والسمكة، ويكفي أن تعود إلى قصيدة "الرحيل من بومانوك " من ديوان "أوراق العشب" لتقف عند هذه الإشارة، ولتدرك بأن السكان الأصليين كانوا أكثر ثقافة من الوافدين الذين كانوا أكثر حضارة. فالنسق مَكّن من بناء الحضارة، لكنه في المقابل أفرغ الإنسان من حس الثقافة.
ولذلك حين كان البطل (عبدالرحمن) يتلمس الخلاص للخروج من مضايق المدينة إلى سعة الطبيعة، صوّر المؤلف من خلاله تخبط الفعل العربي في فضائه بقوله: "لقد صارت هذه الأمة في حكم من يبني سطح بيته بما يهدمه من أساسه".
ومن الإشكالات التي سلطت الرواية الضوء عليها، إشكال التراث والحداثة، وإشكال العلاقة بينهما.
لقد حاول الدكتور (خالد حاجي) عقد صلح بينهما، وقدم مشروعه وتفاصيله داخل الأحداث والمشاعر والشخصيات والمواقف والأفكار. والحق أن هذا المشروع مشروع جريء، لأن استحضار معطيات الواقع تبرز أن بين التراث والحداثة وقائع ومواقع، وكل واقعة تزيد الشّرْخ كسراً، كما أن كل موقعة تزيد الرَّقْع وسعاً، وذلك بحكم أن أحدهما يسير في اتجاه الشمال والآخر يسير في اتجاه الجنوب، فأنّى للتوفيق أن يكون؟ وأنى للصلح أن يعقد؟ ففريق منهم يؤمن بالمقدس، وفريق يكفر بكل مقدس، وفريق يعتقد بالمعنى المطلق، وآخر يوقن بالمعنى النسبي المغلق، وهكذا تصطرخ المقولات بينهما إلى درجة الشحناء والبغضاء.
في هذا الخضم تأتي الرواية لتقدم تصوراً يرى إمكانية المصالحة، كما صالحت بين الفلسفة والأدب، وكما زاوجت بين البطل (عبدالرحمن) والبطلة (روزانجيلا)، وكما صالحت بين الإنسان في الرواية وبين العالم.
ويقوم هذا الصلح بالأساس على الحب والعشق ومراجعة الذوات من أجل التقرب من بعضها، فالبطل (عبد الرحمن) لولا مغادرته المغارة وخوضه الغارة وركوبه المغامرة لَمَا تصالح مع الحياة والضفة الأخرى، والبطلة (روزانجيلا) لولا مغادرتها شكليات اللباس الرسمي لحرس الحدود وخوضها الغارة وركوبها المغامرة، لما تصالحت مع الحياة والضفة المقابلة للأولى.
لقد كان بينهما بحر فاصل، لكنه بحر يدل على السيولة بقدر ما يدل على الصلابة، كما أنه ينفتح على المجهول بقدر ما ينفتح على المعلوم.
إن شطآن العشق هي التي جعلت كُلاً من البطل والبطلة يتطلع إلى عالم الآخر، ويتخلص من صرامة النسق لبناء فضاء شعري جديد، لم يكن الأمر سهلاً فـ(عبدالرحمن) لم يكن راغباً في الهجرة السرية، ومع ذلك وصل، أما بقية الشبان الحالمين بحداثة الغرب، والملحين على الهجرة مهما كان الثمن، فقد غرقوا جميعُهُم.
لم يكن الأمر سهلاً، لكن (عبدالرحمن) كان يتقن السباحة كما كان يتقن التسبيح، في المغارة من قبلُ ثم في العالم من بعد. أما الشباب فلم يكونوا يعرفون شيئاً، لا سباحة توصلهم إلى المنشود، ولا تسبيح يرسخهم في الوجود، فغرقوا وهلكوا.
إن غاية (نوفل) أحدِ الشباب الحالمين بالغرب كانت سيارة وآلة تصوير، كانت غاية، ولكنها غاية محصورة وقاصرة، ولذلك لم يصل. أما غاية (عبدالرحمن) فكانت في تَقَصّي روح العالم، ولم تكن متوجهة إلى مطمع في الغرب ولذلك وصل، وحينما وجد نفسه في الفضاء الجديد وفي حداثـته، كان لا بد من أن يستثمر مخزونه من التسبيح والسباحة لاكتشاف هذا الفضاء ثم محاورته.
لقد كان (عبدالرحمن) ذا شخصية قوية، خبيراً بمفاتيح الإنسان خبرة مكّنته منها أيام الخلوة قبل الجلوة، ظهر ذلك في مواقفه، في حواراته، في تذوقاته.. لقد كان يملك توليفة جعلته يتقن محاورة الضفة الأخرى ويستفيد منها.
في المقابل، كانت (روزانجيلا) ابنة الضفة الأخرى، تملك أيضاً توليفة جعلتها تتقن محاورة ضفة (عبدالرحمن) وتستفيد منها بالرغم من حداثة سنها.
لقد رأى الدكتور (خالد حاجي) في التوليفتين سر المصالحة، ولا توليفة واحدة بقادرة على انعقاد الصلح، فإذا مَـدّ طرف يـده إلى الآخر، فلا بد لهذا أن يمـد يـده أيضاً، وإذا صفت النفوس وخلصت النيات بدأ التقارب بين الضفتين كما بدأ بين (عبدالرحمن) و(روزانجيلا).
لقد طفِقا يُعَلِمان بعضهما لغتيهما، حتى بدأ لسانه يستعجم قليلاً، وبدأ لسانها يستعرب قليلاً، فكوَّنا عبارة مشتركة هي: "حب ميت جميل، وحب حي".
إن الحب الذي وجدته (روزانجيلا) في صندوق (عبدالرحمن)، جعلها تكتشف العمق الإنساني لدى الضفة التي لطالما وَسَمُوها بالجهالة والتكلس، لقد أعاد لها هذا الكشف رشدها التعارفي، بعيداً عن عنصرية أهلها وكراهتهم للغرباء. إنه العمق أو العشق، عشق الشرق الساحر، الذي يجعل الغرب يتطلع إليه موقناً بأن عند الإنسان هناك روحاً ما، سراً ما يفتقده في عالمه، ويحتاج إليه لاستجماع كيانه ومواصلة معنى حياته. إنه العشق الذي جعل (غوته) يجمع الشرق والغرب في ديوان، آملاً أن يكون العالم كالديوان.
لقد كانت (روزانجيلا) تُجِلُّ (عبدالرحمن)، وما استئذانها له لفتح صندوقه إلا دليل احترامها لخصوصياته الثقافية، فلم تَسْطُ عليها كما فعل بعض أسلافها ومعاصريها، ولم تُحَقِّرْ أو تُشَوِّه، بل حاولت الاكتشاف والتعارف الذي انتهى بالزواج، مثمراً ولداً أصر (عبدالرحمن) على تسميته (نوفل).
إنه (نوفل) الجديد، وليس (نوفل) القديم الذي وُلِد بين ثقافتين متصارعتين، وكانت طموحاته قاصرة وسطحية فغرق في البحر.
إنه (نوفل) الجديد الذي وُلِد بين ثقافتين متصالحتين، بعيداً عن اختزال الهوية أو تجميدها، وبعيداً عن الغطرسة والاستكبار.
لقد ألح (عبدالرحمن) على (روزانجيلا) أن يتعاونا على جعل ابنهما يستوعب الثقافتين، وأخذ منها عهداً أن تعينه على توريثه السباحة والتسبيح، وأن تبث فيه هي من حداثة سنها.. "أتعدينني يا روزانجيلا أن تعينيني على أن أورث نوفل ما علمتني إياه سنوات الخلوة في الجبل وأن تنفخي فيه من حداثة سنك..؟". إنه التوريث والبث الذي سيمكنه من مواكبة عالمه، والجواب على أسئلة زمانه.
وفي الختام، لا بد من الإقرار بأنني لم أتطرق لكل قضايا الرواية، وذلك لطبيعة المقال، على أن نعود بحول الله في مقال آخر إلى ما تبقى إن أسعف الأمر.
كما لابد من الاعتراف بأن المشروع الذي قدمه صاحب الرواية لن يَعدمَ مؤيدين ومصفقين ومشجعين، يحسن عندهم في كثير من الوجوه ويُسيء في بعضها. كما أنه لن يعدم معارضين ومشاكسين ومُنفّرين، يسيء عندهم هذا المشروع في كثير من الوجوه ويحسن في بعضها.
وبذلك ستعيش الرواية بين هذين الفريقين تحدياً صعباً، لا يشبهه إلا التحدي الذي عاشه كلٌ من (عبدالرحمن) و(روزانجيلا) للتوفيق بين الضفتين، إنه تحدٍّ تبدو بوادر رِبحه فيما يبثه من بوارق الأمل في إمكانيـة الجمـع بين المفترِقَـيْـنِ والمُتنافـرَيْـنِ، ذلـك بـأن قدرتها (الرواية) على تحقيق قدرٍ من الاتفاق الضمني بين المتخاصمين على وجود وجوه من الحُسن في المشروع ووجود وجوه من القبح لَيفتح الباب للمزيد من السعي لخوض غمار المغامرة والدخول في مرحلة المخاض.
إنه مخاض الرواية التي ينبغي أن تصابر وترابط حتى تُعَلِم الاثنين لغة العالم، لعلها تصيب مقصدها كما أصابه بفضلها (سانتياغو) بطل (باولو كويلو) في روايته "الخيميائي" حينما كان يبحث عن سر العالم، ولم يُخْفِ أن حب الشرق قد زوّده بطاقةٍ خارقة ليحقق أسطورته الشخصية، لقد خاطب (فاطمة) قائلاً: "كنتُ أحلم في طفولتي أن الصحراء قد تحمل لي ذات يوم أجمل هدية في حياتي، وها هي الهدية بين يدي، إنها أنتِ".
إنه نفس اللقاء الذي كان بين (عبدالرحمن) و(روزانجيلا)، لقاءُ القِمم، حيث تتعالى الأرواح وتتسامى الهِمم، لا لقاء السفوح، حيث تتهاوى النفوس وتتعارك النِقم. فبقدر الصعود يكون الائتلاف، وبقدر النزول يكون الاختلاف.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.