سياسات كوفيد-19 في مصر.. بين القمعية والانتهازية

عربي بوست
تم النشر: 2020/05/21 الساعة 11:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/21 الساعة 12:23 بتوقيت غرينتش
كورونا في مصر

تستغل الحكومة المصرية جائحة كوفيد-19 على غرار الأنظمة الاستبدادية الأخرى حول العالم، فتحت ستار مكافحة فيروس كورونا، شنّت الحكومة حملةً قمعية على النُّقاد، وفرضت المزيد من القيود على الحريات الشخصية، إذ اتّخذ النظام المصري القمعي، بقيادة الجنرال عبدالفتاح السيسي، عدّة تدابير سياسية خلال الشهرين الماضيين بدت في ظاهرها أنّها من أجل السيطرة على تفشي المرض. وستُؤثّر تلك الإجراءات على الحياة السياسية في مصر على المدى البعيد، بعد انتهاء أزمة فيروس كورونا. فخارجياً استخدم السيسي الجائحة بوصفها طريقةً لإحراز النقاط السياسية وتحسين صورة نظامه على المسرح الدولي. ومنذ تفشّي كوفيد-19 حول العالم، أرسلت مصر شحنات طبية إلى عددٍ من الدول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والصين وإيطاليا. ومن المثير للسخرية الشديدة أن تُرسِل مصر تلك الإمدادات خارج البلاد، في حين يُصارع شعبُها نفسه لمكافحة فيروس كورونا. وفي واقع الأمر، أعتقد أنّ تسييس مصر واستغلالها لجائحة فيروس كورونا لا يجب أن يمر مرور الكرام دون التدقيق فيه عن كثب.

كوفيد-19 في مصر

لا يُمثّل سوء إدارة مصر لأزمة فيروس كورونا أيّ مفاجأة. فبعد أسابيع قليلة من الإنكار وتجاهل تقارير انتشار الفيروس بدأت الحكومة تقُرّ بالوجود المتزايد لكوفيد-19 في البلاد، واتّخذت إجراءات من شأنها احتواء انتشاره. لكن يبدو أنّ تلك الإجراءات ليست فعّالة أو مُجدية، إذ إنّه في الـ12 من مايو/أيار، وصلت أعداد حالات الإصابة بكوفيد-19 يومياً إلى 347، وهو ما رفع إجمالي عدد المُصابين إلى 10,093 مع 544 حالة وفاة.

وفي الواقع، كان من الممكن أن تكون الأعداد أقل من ذلك في حال وفّرت الحكومة الدعم والمساعدة الطبية اللازمة للمستشفيات والمختصين الطبيين. والأهم من ذلك هو انتشار تقارير مُقلقة تُؤكّد وجود العديد من حالات الإصابة بكوفيد-19 بين الأطباء وفرق التمريض، وهو ما يزيد من تعقيد الموقف ويُؤثّر على قدرة البلاد في مكافحة المرض. وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإنّ أولئك العاملين الصحيين يُمثّلون نحو 13% من إجمالي حالات العدوى بفيروس كورونا في مصر. ففي أوائل أبريل/نيسان على سبيل المثال، شهد المعهد القومي للأورام، المرفق الرئيسي للسرطان في مصر، تفشّي فيروس كوفيد-19 وثبوت إصابة 17 من الأطباء والممرضين على الأقل بالمرض. علاوةً على أنّ مستشفى النجيلة، الذي كُلّف بالحجر الصحي لحالات كوفيد-19، اضطّر لتعليق استقبال الحالات الجديدة بعد ثبوت إصابة نصف أعضاء الطاقم الطبي البالغ عدده 79 فرداً بالمرض، بحسب موقع "مدى مصر". وأشارت التقارير إلى وفاة اثنين من أعضاء الطاقم نتيجة تداعيات المرض.

وأسفر نقص الحماية المُتوفّرة للكوادر الطبية عن أزمةٍ بين وزارة الصحية المصرية ونقابة الأطباء، حيث اتّهمت النقابة الوزارة بعدم اتّخاذ التدابير اللازمة لحماية الأطباء والممرضين المنوطين بعلاج مرضى كوفيد-19. وفي مستشفى التأمين الصحي بالمنصورة، دخلت فرق التمريض والعاملون الطبيون في إضرابٍ؛ احتجاجاً على رفض وزارة الصحة اختبارهم للتأكّد من عدم إصابتهم بالفيروس. كما دعت منظمة الصحة العالمية مصر إلى إجراء المزيد من اختبارات فيروس كورونا، وتطبيق المزيد من التدابير الوقائية. 

وفي مثالٍ آخر على فشل الحكومة الكامل في احتواء الفيروس، خرج رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي ليُعلن عمّا وصفها بـ"خطة التعايش" مع الجائحة. وسيجري بموجب الخطة تخفيف القيود المفروضة على أماكن مثل المتاجر والمطاعم، فضلاً عن إعادة فتح البلاد تدريجياً حتى تعود الحياة الطبيعية، وهي السياسة التي من شأنها أن تزيد تفاقم الأزمة، وتزيد الضغط على منظومة الرعاية الصحية الضعيفة في البلاد.

القمع إبان أزمة فيروس كورونا

تتعامل مصر مع كوفيد-19 بوصفه تهديداً سياسياً؛ إذ يخشى النظام أن يُؤدّي انتشار فيروس كورونا، في وجود منظومة رعاية صحية متهالكة وغير فعّالة، إلى دورةٍ جديدة من الاضطرابات والسخط الشعبي؛ لذا شنّ حملةً قمعية ضد الأفراد الذين انتقدوا استجابة الحكومة لفيروس كورونا. وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية اعتقلت قوات الأمن المصرية العديد من النشطاء الذين انتقدوا سياسات الحكومة في التصدّي لأزمة كوفيد-19، واتّهمتهم بترويج "الشائعات والأخبار الكاذبة على الشبكات الاجتماعية حول انتشار فيروس كورونا في البلاد". فضلاً عن اختطاف امرأتين ليس لهما انتماءات سياسية معروفة، واختفائهما مع سبعة أطفال، بسبب تعليقات ناقدة لتدابير الحكومة في الاستجابة لتفشّي فيروس كورونا، بحسب بيانٍ صادر عن منظمة هيومان رايتس ووتش، وحصل الأطفال لاحقاً على إطلاق سراح مشروط.

علاوةً على ذلك، مدَّد السيسي حالة الطوارئ في البلاد لثلاثة أشهر إضافية، في الـ28 من أبريل/نيسان. وبهذا يُواصل المصريون العيش في حالة طوارئ بعد تمديدها للمرة الـ11 منذ أبريل/نيسان عام 2017، في أعقاب الهجمات الإرهابية على كنيستين في طنطا والإسكندرية، التي أسفرت عن مصرع نحو 45 شخصاً. ومع ذلك فإنّ أكثر أشكال الاستغلال السياسي وضوحاً وخطورة لفيروس كورونا كانت التعديلات التي أُجرِيَت على قانون الطوارئ (القانون 162 لسنة 1958)، التي صادق عليها السيسي في السابع من مايو/أيار. وتزيد تلك التعديلات من سلطات الرئيس والجيش على المدنيين الذين يُحتمل أن ينتهكوا القانون. وبحسب البيان الصادر بتوقيع تسع منظمات حقوق إنسان، فإنّ تلك التعديلات "تُعزّز سيطرة الرئيس والجيش على القضاء"، وتُوسِّع دائرة اختصاص النيابة العسكرية للتحقيق مع المدنيين. كما "تمنح الرئيس سلطة إسناد الاختصاص بالتحقيق في الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام قانون الطوارئ (المادة الرابعة) إلى النيابة العسكرية".

سياسات المساعدة الطبية

على مدار الأشهر القليلة الماضية، أرسلت مصر العديد من الشحنات المليئة بإمدادات طبية مثل: الأقنعة، والمآزر، وعقاقير التخدير، والمضادات الحيوية، وأكياس الجثامين، وماسحات عينات الاختبار إلى دول مثل الصين وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. ولكن حين نأخذ احتياجات مصر بعين الاعتبار نجد أنّ المساعدات الطبية إلى تلك الدول لم تظهر نتيجة كرمٍ أو تضامن مع أزمات كوفيد-19، بل تعكس بدلاً من ذلك الشخصية الماكرة والانتهازية للرئيس السيسي، الذي يستغل الجائحة بوضوح من أجل إحراز النقاط السياسية وتحسين صورته على المسرح الدولي؛ إذ إنّ ثلاثةً من الدول التي حصلت على المساعدات الطبية المصرية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والصين) هي من الحلفاء الاستراتيجيين الذين يُمكن لنظام السيسي القمعي الاعتماد عليهم، في حين تُعاني مصر مشكلات قانونية مع إيطاليا بسبب مواطنٍ إيطالي قُتِلَ في مصر عام 2016.

وتُعدُّ واشنطن حليفاً رئيسياً للقاهرة، كما يُعَدُّ الرئيس ترامب من أقوى داعمي السيسي، لدرجة أنّه وصفه ذات مرة عفوياً بـ"ديكتاتوري المُفضّل". لذا فإنّ شحنة الإمدادات الطبية إلى الولايات المتحدة، التي هبطت داخل قاعدة أندروز المشتركة في ماريلاند يوم 21 أبريل/نيسان، كانت لفتةً ذكية وخطوةً استراتيجية تأتي في خضم واحدةٍ من أسوأ الأزمات الطبية والاقتصادية التي تمُرّ بها أمريكا منذ عقود. وضخّمت أذرع دعاية السيسي حجم المساعدة المُقدّمة إلى الولايات المتحدة بالطبع، إذ رسمتها في صورة الخطوة التاريخية التي تُظهِر "ريادة مصر وقدراتها العالمية". 

وتجدُر الإشارة هنا إلى أنّ مصر من كبار المستفيدين من المعونة الخارجية الأمريكية، إذ تحصل على مليار دولار أمريكي سنوياً منذ عام 1979. وحصل السيسي بطبيعة الحال على المديح والإطراء الذي كان ينتظره من المسؤولين الأمريكيين. إذ غرّدت وزارة الخارجية الأمريكية باللغتين العربية والإنجليزية للتعبير عن امتنانها "للرئيس عبدالفتاح السيسي والشعب المصري على توفير المعدات الطبية وأدوات الوقاية الشخصية بسخاء للشعب الأمريكي". وكذلك فعل مجلس الأمن القومي الأمريكي والسفير الأمريكي في القاهرة جوناثان كوهين، الذي نشر رسالة امتنانه عبر تسجيل فيديو.

وبالمثل، تُعَدُّ المملكة المتحدة حليفاً عسكرياً واقتصادياً وسياسياً رئيسياً لمصر؛ إذ عزّزت الدولتان علاقاتهما الثنائية على مدار السنوات القليلة الماضية، حيث تجاوزت الاستثمارات البريطانية في مصر الخمسة مليارات دولار، وخاصةً في صناعتي الطاقة والنفط. كما تُعَدُّ مصر من كبار مستوردي الأسلحة والمُعدّات العسكرية البريطانية. وبحسب منظمة Action on Armed Violence، التي تسعى إلى الحد من تأثير العنف المُسلّح حول العالم، فإنّ عدد تراخيص مبيعات الأسلحة المُعتمدة من المملكة المتحدة إلى مصر ارتفع بمُعدّل ثابت خلال السنوات الأخيرة. فبين عامي 2008 و2017 فقط كانت هناك زيادةٌ بنحو 750% في أعداد التراخيص الممنوحة لمصر، لترتفع التراخيص من 63 إلى 535. علاوةً على ذلك، اعتمدت لندن في عام 2015 صادرات أسلحة عسكرية إلى القاهرة تصل قيمتها إلى 134 مليون دولار. وبالتالي فإنّ توفير المساعدات الطبية للمملكة المتحدة إبان أزمة فيروس كورونا الطاحنة سيُقوّي علاقة نظام السيسي مع لندن، فضلاً عن عائداته المهمة للقاهرة على المدى البعيد.

وبالنسبة للصين، التي كانت مصر من أوائل الدول التي قدّمت لها الدعم والتضامن في أزمة فيروس كورونا، فإنّ المكاسب السياسية والاقتصادية لا حصر لها؛ إذ إنّ الصين هي أولاً أكبر شركاء مصر التجاريين من حيث حجم التجارة الثنائية، الذي وصل إلى 10.58 مليار دولار خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2019. وثانياً، تُعَدُّ الصين واحدةً من أكبر المستثمرين الأجانب في غالبية المشاريع الكبرى التي يُنفّذها السيسي ويستخدمها في الترويج لنفسه. ومن أهم تلك المشاريع: العاصمة الإدارية الجديدة، ومحور قناة السويس، ومدينة العلمين الجديدة، فضلاً عن توسيع خطوط الكهرباء كما حدث مع خط القطار المكهرب "السلام- العاصمة الإدارية- العاشر من رمضان" باستثمارات وصلت 1.2 مليار دولار من شركة AFIC الصينية. إلى جانب العديد من الاستثمارات الصينية في قطاعات التكنولوجيا، والخدمات، والزراعة، والسياحة. وثالثاً تُعَدُّ الصين واحدةً من أكبر مُقرضي مصر، إذ تمتلك 3.5% من إجمالي الدين الخارجي لمصر، الذي بلغ أعلى مستوياته بتجاوز حاجز الـ112 مليار دولار. وبالتالي، فإنَّ إرسال المساعدات الطبية إلى الصين يُمكن أن يُترجم في النهاية إلى مكاسب كبيرة لصالح نظام السيسي.

وفي إيطاليا نجد أنَّ الرهانات أكبر بكثير؛ إذ يمتلك السيسي علاقة مُعقّدة إشكالية مع الحكومة الإيطالية الحالية بسبب قضية جوليو ريجيني، طبيب الدكتوراه بجامعة كامبريدج الذي كان يُجري بحثاً ميدانياً في القاهرة حين عُذّب بوحشية وقُتِلَ على يد قوات السيسي الأمنية في عام 2016 حسب الادعاءات. ودمّرت قضية ريجيني العلاقات الثنائية بين مصر وبين إيطاليا طيلة السنوات الأربع الأخيرة، وسبّبت المشكلات لنظام السيسي. وحتى الآن فشلت مصر في تقديم أدلةٍ مُقنعة على هوية مَن قتل ريجيني، ولم تَجرِ إدانة أي شخص -أو تقديمه للمساءلة- بتهمة مقتله حتى الآن. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، اتّهم النائب العام الإيطالي مصر رسمياً بمحاولة التضليل في التحقيق عمداً. علاوةً على ذلك أثّرت قضية ريجيني على التعاون بين مصر وإيطاليا فيما يتعلّق بليبيا، إذ تدعم البلدان فصائل ليبية مُتحاربة وتتبنى كلٌّ منهما رؤيةً مُختلفة لكيفية إنهاء الحرب وحلّ الصراع. ولكن بإرسال طائرتي شحن تحملان المعدات الطبية إلى إيطاليا، يعتقد السيسي أنّه قد يُغيّر موقف إيطاليا من قضية ريجيني والصراع في ليبيا، وهذا هو خير ما يعكس انتهازية الرئيس وإفلاسه الأخلاقي.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ مصر لم تُرسل المساعدات الطبية إلى حلفائها وداعميها الإقليميين، خاصةً السعودية والإمارات اللتين تُعانيان من أعلى معدلات الإصابة بفيروس كورونا في العالم العربي -بأرقامٍ تجاوزت الـ42 ألفاً والـ19 ألف حالة على الترتيب. علاوةً على ذلك يُواجه البَلَدان بعض الصعوبات الاقتصادية -خاصةً السعودية- بسبب تحدّيات فيروس كورونا وانهيار أسعار النفط. وفي نهاية المطاف يكشف تحليل خطوات السيسي عن أنّه يهتم بالرعاية الصحية لحلفائه الغربيين أكثر من نظرائه العرب، ما قد يكون تأثيره سلبياً على المخاوف المباشرة حيال الرخاء الاقتصادي لبلاده.

ومن المؤكّد أنّ النظام المصري يبدو مهتماً بتهدئة الانتقادات الدولية لسياساته القمعية وتحكُّمه المتزايد في المجتمع المصري، إذ كانت سيطرة السيسي على الأوضاع المحلية والمعارضة المصرية مُحكمةً بالكامل منذ انقلابه عام 2013. وأكثر ما يهمه الآن هو العلاقات مع رعاته وحلفائه الغربيين، الذين يتمتّعون بمكانةٍ جيدة لمساعدته على اكتساب الشرعية التي يفتقر إليها بين أبناء شعبه.

– هذا الموضوع مُترجم عن موقع Responsible Statecraft الأمريكي.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

خليل العناني
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية