دعه يقتُلْ.. دعه يمُر: بضاعة “الحرب على الإرهاب” التي لا تكسد

عدد القراءات
816
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/19 الساعة 15:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/19 الساعة 15:14 بتوقيت غرينتش
دعه يقتُلْ.. دعه يمُر: بضاعة "الحرب على الإرهاب" التي لا تكسد

دشنت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ ما بات يُعرف بـ"الحرب العالمية على الإرهاب"، في وقت كانت فيه الحروب "المحلية" على الإرهاب تجري على قدم وساق، وتحقق لأصحابها ما يصبون إليه من تأييد داخلي ودعم خارجي، كما كان الحال في مصر والجزائر وسوريا والسعودية وغيرها. فقد نجح السلطويون العرب في ربط حربهم على الإرهاب، بمسألة بقائهم في السلطة على طريقة "إما نحن أو الفوضى". 

حرب مبالغ بها 

كان الرئيس المصري السابق حسني مبارك (١٩٢٨-٢٠٢٠) يكرر دوماً الدعوة لعقد "مؤتمر دولي لمحاربة الإرهاب" لا لشيء سوى لتسويق نظامه خارجياً، واستدرار التعاطف والدعم السياسي والمالي من حلفائه الدوليين والإقليميين، تماماً كما يفعل الآن الجنرال عبدالفتاح السيسي الذي لا يفتأ يكرر إن "مصر تحارب الإرهاب نيابة عن العالم". كذلك، أيضاً، فعل الجنرال الباكستاني برويز مشرّف الذي أصبح رئيساً لباكستان قبل ثلاثة شهور فقط من أحداث سبتمبر عام ٢٠٠١، وذلك بعد قيامه بالانقلاب على رئيس الوزراء الأسبق نوّاز شريف عام ١٩٩٩. استمر مشرّف في السلطة سبع سنوات معتمداً فيها بشكل كبير على دوره في "الحرب على الإرهاب"، وحصوله على الدعم السياسي والمالي من الولايات المتحدة والذي وصل إلى حوالي ١١ مليار دولار ما بين مساعدات عسكرية واقتصادية. وكذلك فعل الرئيس اليمني السابق، علي عبدالله صالح (١٩٤٧-٢٠١٧)، الذي استغل نشاط "تنظيم القاعدة" في بلاده والجزيرة العربية من أجل تدعيم بقائه في السلطة، ناهيك عن حصوله على ملايين الدولارات سواء من أمريكا أو السعودية. رحل مشرّف عن السلطة عام ٢٠٠٨ وهو الآن هارب ومطلوب للعدالة في بلاده، وخُلع مبارك بثورة شعبية في عام ٢٠١١ وخضع للمحاكمة قبل وفاته، في حين قُتل صالح على أيدي خصومه الحوثيين في عام ٢٠١٧، بينما لا تزال رحى "الحرب على الإرهاب" قائمة في بلدانهم، يقودها لاعبون فاعلون ومستثمرون جدد.

فرص موت الأمريكي غرقاً في حمام منزله أكبر من موته في حادث إرهابي

في كتابه المعنون "مُبَالغ فيه: كيف يضخّم الساسة وخبراء الإرهاب تهديدات الأمن القومي ولماذا يصدقونها؟" يحاجج البروفيسور جون مولر أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية أوهايو بأن الولايات المتحدة بالغت كثيراً في مخاوفها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، وهو ما دفعها لإطلاق الحرب العالمية على الإرهاب والتي أنفق في سبيلها مليارات الدولارات، صبت، بالأساس، في مصلحة الأفراد والشركات والمؤسسات العاملة في مجال مكافحة الإرهاب. ويربط مولر، بذكاء، بين رد فعل أمريكا على أحداث سبتمبر برد فعلها على أحداث أخرى كبرى جرت خلال القرن الماضي استفاد منها ساسة كبار ورجال أعمال ومؤسسات صناعية ودفاعية وإعلامية. وهنا يشير، على سبيل المثال، إلى المبالغة في رد الفعل الأمريكي على التهديدات الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وعلى تهديدات اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وعلى أزمة الصواريخ مع كوبا عام ١٩٦٢، وعلى الحرب مع فيتنام، إلخ. 

وحسب مولر فإن "فرص موت الأمريكي غرقاً في حمام منزله أكبر من موته في حادث إرهابي." وهو أمر قد يبدو صحيحاً إذا ما نظرنا لبعض الأرقام. ففي عام ٢٠١٩ فقط مات حوالي ٦٥٩٠ شخصاً بالولايات المتحدة أثناء عبورهم الطريق. في نفس الوقت بلغ عدد حوادث إطلاق النار الجماعي بالبلاد حوالي ٤٣٥ حادثاً دفع ثمنها أكثر من ألفي شخص ما بين قتيل (٥١٧) وجريح (١٦٤٨). في حين أن ما بين ٢٤ ألفاً إلى ٦٢ ألف شخص يموتون سنوياً من مرض الإنفلونزا بالولايات المتحدة. والآن يقترب عدد وفيات فيروس كورونا المستجد (كوفيد ١٩) بالولايات المتحدة من ١٠٠ ألف شخص، في حين وصل عدد الإصابات إلى أكثر من مليون ونصف شخص. في أماكن أخرى، فإن هذه الأرقام كفيلة بالإطاحة برؤساء دول وحكومات ومسؤولين، وأن تدفع، على الأقل، بتغيير دفة الإنفاق المحلي من الحروب الخارجية، إلى بنيتها التحتية وخدماتها الأساسية كالرعاية الصحية والتعليم وتطوير لقاحات لمواجهة الأوبئة والأمراض المعدية، والاستعداد للموجة القادمة من هذه الأوبئة. ولكنها أمريكا التي تهزم فيها صناعة السلاح، وبفارق كبير، بقية الصناعات المدنية!  

حرب على الإرهاب أم قتل للديمقراطية؟ 

حسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، فإن الإنفاق العالمي على الدفاع وصل العام الماضي  حوالي ٢ تريليون دولار، أكثر من ثلثها (حوالي ٣٨٪ أي ما يعادل ٧٣٢ مليار دولار) من نصيب الولايات المتحدة فقط. في بداية عام ٢٠٠١ كان حجم الإنفاق الأمريكي على الدفاع والأمن حوالي ٢٨٧ مليار دولار. في أوائل ٢٠٢٠ وصل هذا المبلغ حوالي تريليون دولار منها. أي أكثر من ثلاثة أضعاف خلال أقل من عقدين. في نفس الوقت ارتفعت ميزانية وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) من حوالي ٤٠٠ مليار دولار إلى أكثر من ٧٠٠ مليار دولار هذا العام. ربع هذه الميزانية، تقريباً، يذهب لجيوب العاملين بالوزارة في هيئة رواتب وخدمات ورعاية صحية، بينما يذهب ربع آخر للمتعاقدين الخارجيين مع الوزارة والذين يقدرون بمئات الشركات وعشرات الآلاف من العاملين

الخوف من الإرهاب أصبح مسيطراً على العقل الأمريكي إلى الدرجة الذي بات يمثل أحد المعالم الرئيسية لرسم وتمييز هوية المواطن الأمريكي

في كتابها المعنون "باسم الإرهاب: الرؤساء والعنف السياسي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية" تجادل  كارول وينكلر، بروفيسور النزاعات والسياسة الخارجية في جامعة ولاية جورجيا، بأن "الخوف من الإرهاب أصبح مسيطراً على العقل الأمريكي إلى الدرجة الذي بات يمثل أحد المعالم الرئيسية لرسم وتمييز هوية المواطن الأمريكي. وهو بالنسبة إليه أصبح كما الخيط الفاصل بين الخير والشر، الحرية والاستبداد، لذا فمحاربته أمر يتطلب بيعة كاملة من المواطنين للرؤساء، وما دون ذلك قد يعد بمثابة خيانة وعدم ولاء". وبالطبع، فكلما زاد الخوف وعدم الإحساس بالأمن، زاد دعم المواطن لساسته وسياساتهم، خاصة فيما يتعلق بالإنفاق على السلاح لمواجهة خطر الإرهاب. وهكذا كانت الحال بأمريكا طيلة نصف القرن الماضي!

في خطاب رحيله عن السلطة الذي ألقاه من المكتب البيضاوي في السابع عشر من يناير/كانون الثاني ١٩٦١ حذّر الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت إيزنهاور (١٨٩٠-١٩٦٩) من مخاطر ما أسماه "المجمّع الصناعي العسكري". كان إيزنهاور يشير إلى ذلك الأخطبوط العسكري-السياسي الذي بدأ في الظهور خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية خاصة خلال الحرب الكورية (١٩٥٠-١٩٥٣) والذي كان يسعى لاستمرار الحرب وذلك من أجل تعظيم مكاسبه منها. والمجمّع الصناعي العسكري يشير إلى ذلك المثلث الحديديّ الذي يجمع السياسيين والعسكريين ورجال الأعمال في مجال الصناعات الدفاعية، المجال الذي يهمين على جزء مهم من الأموال المخصصة للإنفاق على الدفاع والأمن في أمريكا. وقد حذر إيزنهاور من خطورة هذا المثلث على مستقبل الحياة السياسية والديمقراطية في أميركا. ولكن تحذيره قد ذهب أدراج الرياح! فمنذ ذلك الوقت وحتى الآن تضخمت قوة المجمّع الصناعي العسكري، وازداد نفوذه أضعافاً على السياسة الأمريكية، وبات من أهم اللاعبين المؤثرين داخل الكونغرس الأمريكي بشكل يمثل تهديداً جدياً للديمقراطية الأمريكية.

دعه يقتُلْ … دعه يمُرّ

منذ 2001 وحتى الآن أنفقت الولايات المتحدة ما يقرب من 6.5 تريليون دولار في الحرب على الإرهاب، في حين دفع ما يقرب من مليون شخص حياتهم ثمناً لها من بينهم حوالي 7 آلاف جندي أميركي و54 ألف مصاب. يقول البروفيسور مولر إن "الحروب التي دخلتها أمريكا بعد أحداث سبتمبر كلفتها أموالاً وأرواحاً أكثر بكثير مما حدث في الحادي عشر من سبتمبر". والأكثر من ذلك أن هذه الأموال، يدافع مولر، لم تقض على مخاطر الإرهاب أو تقيّد الخسائر المترتبة على محاربته، بل على العكس زادت منها.

لم يُحاسِب أحد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش الذي أطلق "الحرب العالمية على الإرهاب" قبل عشرين عاماً عن الخسائر التي مُنيت بها بلاده في تلك الحرب، ولا على التكلفة الباهظة لها مالياً وإنسانياً. وبالمثل، لم يُحاسب سلفه باراك أوباما، وأغلب الظن لن يُحاسب الرئيس الحالي دونالد ترامب. بل على العكس، فمن مصلحته، ومصلحة غيره من الساسة، استمرار هذه الحرب بشكل أو بأخر من أجل ضمان تحقيق مصالحهم.

وعلى نفس المنوال، فلم يُِحاسِب أحد مبارك أو مشرّف أو صالح عن حربهم على الإرهاب، وأغلب الظن أن أحداً لن يُحاسِب السيسي أو بشار الأسد على جرائمهم التي يقترفونها تحت يافطة هذه الحرب. بل على العكس، سيواصلون خوض هذه الحرب ليس للانتصار فيها، ولكن لأن لا أحد يحاسبهم عليها، ولأن بضاعتها لا تكسدْ أبداً فهي تُدار وفق مبدأ "دعه يقتل.. دعه يمر".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
خليل العناني
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية
تحميل المزيد