هل تساءلت في يوم ما لماذا أغلبُ الناس يستخدمون يدهم اليمنى؟ الإحصائيات تقول إن 90% من البشر يعتمدون على أطرافهم اليمنى في الكتابة والركل والتحكم الدقيق. هذه خاصية موجودة فقط في الإنسان حيث لوحظ أن الثدييات الأخرى لا توجد لديها أفضلية لجانب على آخر.
القدرة على التحكم بالأطراف هي خاصية متعلقة بالدماغ وبالتحديد متعلقة بكمية عدم التشابه بين نصفيه. كما هو معروف أن نصف الدماغ الأيمن يتحكم بنصف الجسم الأيسر ونصفه الأيسر يتحكم بنصف الجسم الأيمن. إذا صدف في حيوان ما أن يكون نصف ما من الدماغ أكثر نشاطاً من النصف الآخر فإن هذا غالباً سيؤدي إلى تفوق جانب الجسم الذي يتحكم به ذلك النصف من الدماغ. في الحيوانات عموماً لا يبدو الأمر محسوماً في قضية أي جانب من الجسم هو الجانب المسيطر. فالقطط تبدو منقسمة بالتساوي تقريباً في تفضيل جانب على آخر.
الغوريللا والقرود في المقابل يبدو لديها تفضيل طفيف للجانب الأيمن بينما الشامبانزي وهو الأقرب للإنسان يبدو أنه يعتمد على كلتا يديه حسب المهمة المطلوبة. الـ "handedness" أو تفضيل جانب على آخر لدى الحيوانات لا يبدو أمراً محسوماً.
أما لدى الإنسان فالأمر محسوم. 90% من الناس يستخدمون اليد اليمنى بغض النظر عن أعراقهم أو ألوانهم أو لغاتهم. ليس هناك تفسير متفق عليه بالكامل لهذه الظاهرة ولكن التفسير المنطقي الذي عليه الإجماع لوجود هذه الأفضلية لدى الإنسان هو اللغة.
دعني أشرح لك كيف:
كما ذكرنا سابقاً فإن جانب الدماغ الأيسر يتحكم بنصف الجسم الأيمن والعكس صحيح. بالإضافة إلى ذلك فإن الجانب الأيسر من الدماغ هو المسؤول عن اللغة بشكل كبير لدى الإنسان حيث يوجد في هذا الجزء من الدماغ منطقتان (Broca و Wernicke) مسؤولتان عن الكلام وعن فهم الكلام. يعتقد العلماء أنه مع تطور اللغة لدى الإنسان القديم بدأ يستخدم الجانب الأيسر من دماغه أكثر وكأثر جانبي لهذا الاستخدام بدأ يستخدم الجانب الأيمن من جسمه أكثر. استخدام اليد اليسرى أو الجانب الأيسر من الجسم أكثر لا يعني أن عملية اللغة بكليتها تتم في الجانب الأيمن، بل قد تعني أن جزءاً أكبر من فهم اللغة والكلام يتم في ذلك الجانب.
تقول النظريات إن اللغة لدى الإنسان هي ليست مجموعة مفردات فحسب بل إنه مع تطور اللغة لدى الإنسان تطور التفكير التجريدي (abstract thinking) وتطور الخيال لديه وصار يستخدم اللغة لوصف صور معقدة بعد أن كانت مجموعة من الأصوات. فأصبح يؤمن بمصطلحات غير ملموسة لا تشاركه فيها المخلوقات الأخرى مثل التضحية والأمانة والظلم وما عدا ذلك. صار يركب صوراً معقدة من الكلمات والأهم من ذلك أنه صار يمارس اللغة ذات التركيبات غير المنتهية أو المسهبة.
من الصعب التخيل أن التفكير التجريدي كان يمكن أن يتكون عند الإنسان بمعزل عن اللغة. من الصحيح أن للحيوانات لغات أيضاً، فقد يكون لديها أصوات معينة تدل على المأكل أو على وجود الخطر أو عندما تنادي على صغارها، ولكن من الصعب التصور أن للحيوانات مفردات تعبر عن معاني ليست ملموسة كالسلام أو العدل أو الغيرة وغيرها من المعاني التجريدية. يمكن القول إن "الأسماء" والصفات والقدرة على ربطها معاً لتكوين الكلام هي التي ميزت لغة الإنسان عن لغة الحيوان. وبالتالي تكون اللغة هي الأمر الفريد والأوحد الذي فرق الإنسان عن غيره من المخلوقات وجعل الإنسان إنساناً يؤمن بقيم لا يعرفها غيره من المخلوقات.
العالم اللغوي الشهير تشومسكي وضع في خمسينيات القرن الماضي نظرية أو فرضية مفادها أن هذه القدرة على ربط الأسماء والصفات في جمل طويلة (Recursiveness) هي نتيجة طفرة جينية ميزت الإنسان عن بقية الحيوانات. كان لهذه الفرضية أن تبقى فرضية لولا أن العلماء في تسعينيات القرن الماضي استطاعوا أن يكتشفوا جيناً يبدو مسؤولاً بشكل كبير وربما أوحد عن ملكة اللغة لدى الإنسان وسموه (FOXP2). قصة اكتشاف هذا الجين مثيرة وبطلتها عائلة بريطانية عجيبة يطلق عليها (KE Family). أدعوكم للقراءة عن هذه العائلة لمعرفة تفاصيل القصة المثيرة.
الأمر المثير هو أن العلماء بعد اكتشاف الجين قارنوه بنفس الجين الموجود لدى بعض حيوانات مثل الفئران والقرود، فوجدوا أن الاختلاف طفيف ويكمن في حمضين أمينيين في تركيب هذا الجين. ما هو أكثر إثارة أن العلماء قدّروا أن الطفرة التي طرأت على هذا الجين لتجعله يفجر معجزة اللغة حدثت من فترة ليست بعيدة قدروها بـ200 ألف سنة في بعض التقديرات وهي فترة قريبة جداً إذا قورنت بعمر المخلوقات على الأرض أو حتى بعمر الإنسان الأول بمختلف أنواعه (Hominid species) والذي يمتد لأكثر من ثلاثة ملايين سنة. العلماء يعتقدون أن شيئاً ما حدث أدى إلى تطور هذا الجين عند الإنسان بشكل سريع جداً لا تناسب مع وتيرة التغير البطيئة التي مر فيها هذا الجين الذي بقي ثابتاً دون تطورات تذكر على مدى ملايين السنين عند القرود والشمبانزي. هذه التطورات كانت جوهرية جداً فجرت لدى الإنسان هذه المعجزة التي تسمى اللغة.
في تطور مثير في دراسة اللغة والتفكير والخيال لدى الإنسان، طرح عالم أعصاب في جامعة بوسطن (Andrey Vyshedskiy) في ٢٠١٩ نظرية مثيرة مفادها أن الإنسان الحديث (Homosapien) فقط من 70 ألف سنة بدأت عنده اللغة الحديثة المبنية على تركيب الكلمات لتكوين الصور حقيقية كانت أو خيالية. صور مثل "العصفور الأبيض الواقف بجانب الشجرة المطلة على البحيرة الزرقاء".
الدراسة تقول إن ممارسة اللغة والاستماع للصور اللغوية المركبة المتكونة من عدة كلمات لها أثر مهم جداً بل وضروري لنمو جزء من الدماغ يسمى lateral prefrontal cortex أو LPFC. هذا الجزء هو المسؤول الأوحد عن استيعاب الصور المحكية وتكوين الخيال ولا يمكن للإنسان أن تكون لديه القدرة على فهم الصور المعقدة دون الاستماع للغة متقدمة في سنوات عمره الأولى تساهم في تكوين الـ LPFC. هذا المعلومة معروفة لدى علماء الأعصاب النفسيين حيث لوحظ أن الأطفال الذين لم يتعرضوا للغات المعقدة يعانون دائماً من تأخر في النمو بسبب تراجع هذا الجزء من الدماغ الذي يحتاج إلى اللغة لينمو بشكل صحيح.
الأمر المثير للدهشة هو أن عالم الأعصاب هذا يعتقد أن القفزة الرهيبة التطورية التي نقلت الإنسان الحالي من إنسان بدائي لا خيال له إلى إنسان يتقن الخيال ويمارسه بدأت بشخصين أو طفلين، هكذا تقول النظرية، كانت لديهم طفرة جينية جعلت منطقة الـLPFC أكثر تأثراً بالكلام مما جعلها أكثر قدرة على التخيل وتكوين الصور الذهنية. هذان الشخصان (اللذان ربما كانا ولدين أو ولداً وبنتاً) واللذان سماهما العالِم مجازاً Romus وRemelus، على اسمي بانيي روما اللذين تقول الأسطورة أنهما تربيا في كنف ذئبة، كانا قد اخترعا بالصدفة طريقة تركيب الكلمات لتكوين الصور والأوصاف المعقدة باستخدام الأصوات والكلمات التي كانت متداولة آنذاك. عثورهم على هذه الطريقة في الوصف والحديث ساهم بشكل عظيم في نمو جزء من دماغهم لم يكن لينمو عند أسلافهم الذين لم يمارسوا اللغة المركبة ذات الصور المعقدة.
كان هذا ما يفرقهما عن البقية التي لم تكن لديها هذه الطفرة وبالتالي لم تنم لديهم الـLPFC كما نمت في هذين الشخصين واللذين منهما، تقول النظرية، جاءت السلالة البشرية الحديثة. العالم وضع نموذجاً رياضياً ليبرهن طريقة عمل هذه النظرية فهي لم تكن محض تنظير فقط.
مدهش كيف أن اللغة وما أدت إليه من تطور في التفكير التجريدي والخيال لدى الإنسان تبدو وكأنها كانت هي الحد بين الإنسان والوحش.
قد يكون مغرياً الآن، بالذات وأن النظرية تفترض بدء البشرية بشخصين، أن يستنتج القارئ بعد هذا المقال أن سيادة الإنسان في الأرض كانت بالفعل أمراً مقترناً بـ"تعليمه الأسماء". إذا كان الأمر كذلك فمن المنطقي الاستنتاج بعد ذلك أن الأمانة التي جاءت مع تعلم الإنسان للأسماء هي في الحقيقة ملكة التفكير التجريدي والقدرة على اختلاق الخيال والصور. هذه المَلَكة التي بها يميز الإنسان معاني كالعدل والحب والشجاعة والجمال. ربما الإخلاص لهذه الأمانة ليس أكثر من أن يكون المرء مخلصاً لما جعله إنساناً: الخيال والمعاني واختلاق الصور.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.