يُغرينا الغد إغراء لا حدَّ له، يُغرينا في كل يوم، فما دام هنالك غدٌ ما، فلا يوجد داعٍ للعجلة، لا يوجد سبب للشروع فيما نود حقاً أن نفعله، لا يوجد ما يدفعنا إلى ترك حالة السبات التي تسيطر علينا في حياة قد لا تشبه شيئاً مما نتمناه لأنفسنا، وأخذ أولى الخطوات في سبيل تحقيق ذواتنا وإمكاناتنا المعطلة. ندأب على تخيُّل المستقبل تلك الأرض الوردية التي لا تُنبت أرضها معوقات، ولا يوجد فيها ما سيقف في طريقنا، الظروف ستكون مواتية، وكل شيء سيكون سهلاً، وسنفعل حينها كل ما نريد. تلك الفكرة البرّاقة الخادعة وغير الواقعية للمستقبل تسلبنا اليوم وغداً على السواء، فإذا لم نتحرك الآن فلن يكون الغد سوى نسخة مكررة من اليوم، وهو ما وصفه الفيلسوف والإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس عندما كتب لنفسه يُذكِّرها: "إنك تستحق ما أنت فيه الآن، لأنك اخترت أن تكون صالحاً غداً لا أن تكون صالحاً اليوم".
وهنا، تأتي الأهمية المحورية لفكرة الموت، إنها تسلبنا اليقين أنه سيكون ثمة غد، تهزنا هزة عنيفة من سباتنا وتُذكِّرنا أننا لا نملك من حياتنا سوى اللحظة الحالية، تحدونا أن نبدأ عيش الحياة التي نريدها الآن دون مزيد من التسويف، أن نكف عن دأبنا، الذي وصفه سينيكا، في "تأجيل ما نريد أن نفعله، تلك الممارسة تسلبنا الحاضر وتعدنا أمامه بالمستقبل"، أن نكف عن "وضع خطط لما يقع في يد القدر، ونتجاهل ما يقع في يدنا"، أن ننصت للفيلسوف وهو يسألنا: "إلامَ تنظر؟ إلى أي هدف تسعى؟"، ثم نمتثل للأمر: "المستقبل بأكمله محاط بضباب وغموض، عِش فوراً".
قد تجد نفسك دون فكرة واضحة عن الشكل الذي تريد لحياتك أن تكونه، وهنا أيضا تبرز أهمية تأمل فكرة الفناء. فلو تخيلت لوهلة أنك على وشك الموت، أن ميعاد انتهاء حياتك قارب على المجيء، وأنك قد لا تعيش لسنوات طويلة، فستبدأ في إدراك أولوياتك في الحياة التي ستمتلئ ندماً وأنت على حافة النهاية إن لم تُحقِّقها. فالموت هنا يصير عدسة تُغيِّر منظورنا للحياة ولكل ما فيها، فما توليه أهمية كبيرة في اللحظة الحالية وتُنفق فيه كثيراً من الوقت والمجهود والطاقة قد تكتشف أنك لن تكترث لأمره حقاً حين تحين النهاية، وما تؤجّله وتسوّف فيه ولا توليه الكثير من الاهتمام ستُدرك أنه كان أكثر أهمية لك مما ظننت يوماً، فمحض شعورك بالأسى حين تتخيّل أنك سترحل عن الحياة وذاك الشيء عنك ببعيد يكشف لك الكثير.
لا يُغيِّر تأمُّل الموت فقط منظورنا لما نريده أن يكون، بل يُبدِّل أيضاً نظرتنا لما هو كائن. ففي عدسة الموت، تبدو الكثير من مخاوفنا وهواجسنا ضئيلة غير ذات وزن حقيقي، ولا تستحق أن نعاني كل تلك المعاناة بسببها. وفي عدسة الموت أيضا يبرز الجمال المخفي لتفاصيل الحياة الصغيرة ونعمها الكبيرة التي يعمينا انشغالنا الدائم عن رؤيتها، ويُضلِّلنا ظننا الزائف أنها ستدوم للأبد عن إدراك كم هي ثمينة.
فاللحظات العابرة التي تمتلئ براحة البال لا يقطعها شيء، والأيام التي نقضيها في رفقة الأهل والأصدقاء، والساعات التي تمر ونحن نفعل ما نحب، هي أثمن ما نملك في هذه الحياة. فالأوقات الجميلة -هذا ما يُعلِّمنا إياه تأمُّلنا للموت- زائلة، وزماننا في هذه الحياة قصير، لذا علينا أن نمتلئ امتناناً بكل جميل فيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.