تخيّل المشهد التالي: تم أسر جنديين سابقين من القوات الخاصة الفنزويلية أثناء محاولتهما الهبوط على شاطئٍ في الولايات المتحدة. يعترفان أمام الكاميرا بأنهما جزءٌ من مؤامرةٍ أوسع للقبض على الرئيس الأمريكي واختطافه.
في نفس اليوم وعودةً إلى فنزويلا، نشر جنديٌّ آخر من القوات الخاصة السابقة على صلةٍ بالحارس الشخصي للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، مقطع فيديو يعلن أن الرجلين كانا يعملان في شركته الأمنية الخاصة، في مهمةٍ لاعتقال الرئيس دونالد ترامب وإسقاط الحكومة في العاصمة واشنطن.
بعد ذلك بيومين يظهر وزير الخارجية الفنزويلي -الذي تصادف أنه الرئيس السابق لوكالة المخابرات مرهوبة الجانب- في مؤتمرٍ صحفيٍّ اختار فيه أن ينفي فقط المشاركة "المباشرة" في العملية. ويضيف بابتسامةٍ متواضعةٍ: "لو كنّا متورطين لكانت العملية قد سارت بشكلٍ مختلفٍ".
كيف سيكون رد الفعل هنا في الولايات المتحدة.. بين النخب السياسية والإعلامية، في دوائر الأمن القومي؟ ألن تقوم الصحافة الأمريكية بتشغيل قطعٍ لا نهاية لها تندّد وتنتقد مادورو؟ ألن تشتعل القنوات الإخبارية تغطيةً للحدث؟ هل يشك أحدٌ في أنّ الجيش الأمريكي سيستعد لمهاجمة أهدافٍ عبر فنزويلا انتقاماً؟
لكنّ هذا بالضبط ما شهدناه خلال الأسبوع الماضي، ولكن في الاتجاه المعاكس، ودون أي شعور بالصدمة أو الغضب في الولايات المتحدة.
يوم الإثنين كانت فنزويلا هي التي أسرت جنديين سابقين من القوات الأمريكية الخاصة: لوك دينمان وأيران بيري، بعد ما وصفته السلطات بأنه "هبوطٌ شاطئيّ فاشلٌ في قرية صيد السمك تشواو". تم نشر مقطع فيديو لدينمان يخبر المحققين بأنه كلّف بالقبض على الرئيس الفنزويلي. في غضون ذلك ظهر جوردان غودرو، رئيس شركة الأمن الخاصة سيلفركورب يو إس إيه، التي تتخذ من فلوريدا مقراً لها، في مقطع فيديو إلى جانب ضابطٍ عسكريٍّ فنزويليٍّ سابقٍ في ملابس قتاليةٍ، أكد فيه أن دينمان وبيري يعملان لصالحه. (كشفت التقارير الصحفية منذ ذلك الحين أن غوردو عقد اجتماعاتٍ مع حارس ترامب السابق منذ فترةٍ طويلةٍ كيث شيلر، ووقّع عقداً بملايين الدولارات مع المعارضة الفنزويلية المدعومة من الولايات المتحدة، ويدّعي أيضاً أنه كان على اتصالٍ بمكتب نائب الرئيس مايك بنس).
يوم الأربعاء تحدّث وزير الخارجية مايك بومبيو، وهو المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، في مؤتمرٍ صحفيٍّ، حيث أصدر إنكاراً شديد اللهجة: "لم يكن هناك تدخّلٌ مباشرٌ من الحكومة الأمريكية في هذا الأمر". مثلما لم يسعه إلا أن يتباهى أمام المراسلين حول كيف أن العملية "لكانت سارت بشكلٍ مختلفٍ" لو كانت الولايات المتحدة وراء ذلك. (مذكرة إلى بومبيو: ابحث عن "خليج الخنازير" على جوجل)
من يعرف؟ ربّما لم تشارك واشنطن هذه المرة. ربّما يكون ترامب محقًا في القول إنّ هذا الفشل الذريع بالذات، والذي يبدو وكأنّه مؤامرة ٌلفيلمٍ هوليووديٍ سيءٍ، "لا علاقة له بحكومتنا."
لكن مرةً أخرى، هذه إدارةٌ من الكاذبين، والمخرّبين، والفهلويين. الخيانة هي السمة المميّزة للبيت الأبيض خاصّة ترامب. إنكارهم لذلك لا قيمة له.
بالإضافة إلى ذلك هناك التاريخ الحديث الذي يجب أخذه في الاعتبار: لقد كانت شيطنة فنزويلا وخنقها مشروعاً من الحزبين في العاصمة واشنطن، منذ صعود هوغو تشافيز و"المدّ الوردي" الاشتراكي في أواخر التسعينيات. في عام 2002 شجّعت إدارة بوش ودعمت الانقلاب (الفاشل) ضد تشافيز. (كما ذكر فيما بعد مسؤول بوش السابق أوتو رايش- الذي اتُّهم بالالتقاء مع المتآمرين مسبقاً- أنّ وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) حذّرته وزملاءه من أنّ محاولة انقلابٍ ستتمّ قبل خمسة أيامٍ من حدوثها!).
في عام 2015 اتّخذت إدارة أوباما القرار العبثي بإعلان فنزويلا رسمياً "تهديداً غير طبيعيٍّ وغير عاديٍّ" للأمن القومي الأمريكي. في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة أكبر 11 مرةً من حيث عدد السكان، و600 مرةٍ أكثر ثراءً من حيث الناتج المحلي الإجمالي، ومع ميزانيةٍ عسكريةٍ 1800 ضعف حجم فنزويلا.
في عام 2019 وصفت إدارة ترامب مادورو بأنه "غير شرعيٍّ" واعترفت بزعيم المعارضة خوان غوايدو رئيساً مؤقتاً لفنزويلا. حتى الآن هذا العام، اتّهمت واشنطن مادورو بتهم إرهابٍ تتعلق بالمخدرات. رفضت تعليق العقوبات المعوّقة لكاراكاس على الرغم من انتشار كوفيد-19؛ ونشرت سفناً حربيةً أمريكيةً بالقرب من فنزويلا فيما وصف بأنه "واحدٌ من أكبر العمليات العسكرية الأمريكية في المنطقة منذ غزو بنما عام 1989 لطرد الجنرال مانويل نورييغا من السلطة".
تغيير النظام هو السياسة الصريحة للحكومة الأمريكية.
لنكن واضحين: إن النظام في كراكاس نظامٌ وحشيٌّ واستبداديٌّ وفاسدٌ. فرّ أكثر من أربعة ملايين فنزويليٍّ من البلاد في السنوات الأخيرة؛ تدور تقييمات الموافقة على بقاء الرئيس حول الـ10%.
لكنّ أيّ شخصٍ يدّعي أنّ معارضة الولايات المتحدة لمادورو تقوم على الاهتمام بالديمقراطية أو حقوق الإنسان في فنزويلا إمّا أن يكون غير صادقٍ أو أن يكون مخدوعاً. للولايات المتحدة تاريخٌ طويلٌ في دعم الرجال الأقوياء حول العالم خاصةً في أمريكا اللاتينية. فكّر في الجنرال إفراين ريوس مونت في غواتيمالا. أو الجنرال أوغستو بينوشيه في تشيلي. أو الجنرال خورخي رافائيل فيديلا في الأرجنتين. والقائمة تطول وتطول.
لا.. السبب الحقيقي وراء هوس الولايات المتحدة بإسقاط الحكومة في كاراكاس هو بالطبع، لأن فنزويلا لديها أكبر احتياطياتٍ نفطيةٍ في العالم، لكنّ قادتها يعارضون الولايات المتحدة والرأسمالية. في الواقع اعتاد ترامب ورفاقه قول الجزء الهادئ بصوت عالٍ. كما كشف مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق أندرو ماكابي في كتابه "التهديد"، في مؤتمرٍ صحفيٍّ مع مسؤولي المخابرات في عام 2017، سأل ترامب لماذا لم تكن الولايات المتحدة في حالة حربٍ مع فنزويلا، مشيراً إلى كيف أن "لديهم كل هذا النفط وهم يقبعون فقط عند بابنا الخلفي".
في يناير/كانون الثاني 2019 قال مستشار الأمن القومي لترامب في ذلك الوقت جون بولتون، لـ"فوكس بيزنس": "سيحدث فارقاً كبيراً للولايات المتحدة اقتصادياً إذا كان بإمكاننا جعل شركات النفط الأمريكية تستثمر حقاً وتنتج النفط في فنزويلا".
لا نعرف ما إذا كان ترامب وشركاؤه متورطين في محاولة الهجوم المستوحاة من غودرو على مادورو. لكن ما نعرفه هو أنهم يواصلون محاولة تجويع فنزويلا وإجبارها على الخضوع. إذا كانت إدارة ترامب تلقي بالاً لشعب ذلك البلد، فسوف تستجيب للدعوات من الجميع، من البابا، إلى مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، إلى مجموعةٍ من الديمقراطيين في الكونغرس، لتعليق العقوبات ومساعدة كاراكاس على مكافحة انتشار فيروس كورونا المستجد.
لكنها لن تفعل؛ لأنها لا تلقي أي بالٍ لهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.