قررت الحكومة بمناسبة شهر رمضان أن حظر التجول سيبدأ من التاسعة، وليس من الثامنة كما كان قبل الشهر الكريم، وينتهي في السادسة صباحاً وليس السابعة كما كان مقرراً قبل ذلك، وعودة العمل في "المولات" الكبرى من السادسة صباحاً وحتى الخامسة مساء، بعد أن كانت مغلقة بشكل كامل في الفترة الماضية، وعودة المطاعم للعمل كذلك، مع عودة الشهر العقاري للعمل بعد أن كان العمل فيه معلقاً بسبب كورونا، أيضاً عودة المحاكم للعمل التدريجي، ليبدأ بقضايا إعلانات الوراثة، وعودة وحدات المرور للعمل التدريجي، فيبدأ بتقديم خدمة تراخيص السيارات الجديدة[1]. لكن في مقابل تقليص ساعات الحظر، وعودة العمل التدريجي في معظم المرافق والقطاعات، إلا أن الحكومة أعلنت استمرار العمل بنصف أعداد الموظفين في المؤسسات الحكومية[2].
وقد ذكرت "اليوم السابع" في تفسيرها لقرارات الحكومة بخصوص تخفيف الإجراءات الاحترازية المأخوذة ضد وباء كورونا، بأن الحكومة المصرية باتت ترى أن فيروس كورونا أصبح جزءاً من حياتنا اليومية ويجب التعايش معه، بحسب ما جاء على لسان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، الذي صرح أيضاً بأن أعداد المصابين بالفيروس ستواصل الزيادة خلال الفترة القادمة، بل وبمعدلات أعلى من المعدلات الموجودة حالياً.
قراءة في مضامين القرارات ودلالاتها:
في الحقيقة هذه القرارات ليست مفاجئة، فهي كما كان بادياً، كان تنفيذها يراود صانع القرار المصري منذ فترة طويلة، إلا أن خوفه من ردة الفعل يبدو، أو خوفه من تفشي الوباء في مصر في حال تخفيف الإجراءات الوقائية، والتي هي ضعيفة منذ البداية، كان يمنعه من المسارعة لتنفيذها. لكن مع قرارات الحكومة في الثامن من أبريل/نيسان بمد سريان حظر الحركة ﻷسبوعين جديدين لتنتهي في 23 أبريل/نيسان الماضي، على أن يستثنى من الحظر تقريباً كل النشاطات الاقتصادية والمجتمعية[3]، ليصبح حظر التجول في مصر مجرد "خيال مآتة" لا يخيف أحداً ولا يعبأ به في الحقيقة أحد، كانت هذه القرارات السابقة تمهيداً للقرارات التي أعلنتها الحكومة، وهي بدورها تمهيد لعودة الحياة لما كانت عليه قبل الحظر.
لكن من المتوقع أن عودة الحياة الطبيعية لن تنتظر قرارات رسمية هذه المرة، لكنها ستكون سابقة للقرارات، ولن تكون قرارات الحكومة بعودة الحياة الطبيعية في نهاية شهر رمضان إلا مجرد إعلان عما حدث خلال الشهر الكريم، من عودة تدريجية لكل مظاهر الحياة الطبيعية كأن الوباء قد انتهى من تلقاء نفسه. وتفسير ذلك أن القرارات المعلنة هذه المرة تحمل بشكل غير مباشر رسالة مفادها أن الحكومة ستغض الطرف عن أية اختراقات للإجراءات الاحترازية القليلة المتبقية، فالسماح بعودة المطاعم لكن للبيع فقط "تيك أوي، وديليفري" لن يحول دون تقديم المطاعم للأغذية في صالاتها، كما أن عودة وحدات المرور للعمل لكن فقط لإصدار تراخيص السيارات الجديدة فقط، لا تعني امتناع المرور عن تقديم الخدمات الأخرى إن طلبت منه.. إلخ.
ولعل ما يدعم ذلك تصريح رئيس الحكومة بأن فيروس كورونا أصبح جزءاً من حياتنا اليومية ويجب التعايش معه، وإصرار الحكومة على إصدار هذه القرارات الأخيرة، رغم تصريح "مدبولي" خلال الإعلان عنها، بأن أعداد المصابين بالفيروس ستواصل الزيادة خلال الفترة القادمة، بل وبمعدلات أعلى من المعدلات الموجودة حالياً. فالحكومة تقول وبشكل واضح إن كورونا باق، وسيكون له ضحايا، ومع ذلك سنتحلل من الإجراءات الاحترازية.
قرارات الحكومة واستراتيجية مناعة القطيع:
والسؤال: هل قرار الحكومة بالتخفيف التدريجي للإجراءات الاحترازية وعودة الحياة لمسارها الطبيعي، يعني أن الحكومة تبنت بشكل واع وعقلاني استراتيجية "مناعة القطيع Herd Immunity"، التي تقوم على افتراض: أن طور احتواء الوباء Containment انتهى أو سينتهي قريباً بشكل حتميّ، وبالتالي ففحص المشتبه بهم جميعهم وعزلهم لن يكون ذا فائدة. وأن لابدّ من حصول ذروة Peak في نسبة الإصابة بالعدوى. وأن حماية كبار السّنّ وأصحاب الأمراض المزمنة يجب العمل عليه عند الوصول لحالة الذروة في انتشار الوباء، لا قبلَها؛ الآن عدد الحالات قليل، وبالتالي فالإغلاق والإلغاء وتعطيل المجتمَع لن يُفيد الآن، بل يجبُ الانتظار حتّى تحصلَ الذروة التي لا بدّ منها، وعندَها يجبُ حماية هذه الفئة حتّى تعبرَ الذروة. بالتالي ما يجب القيام به في الوقت الراهن: الإبقاء على المدارس مفتوحة والإبقاء على سير الحياة الطبيعية بدون تغيير بلا توقّف. مع دعوة جميع من يشعرون بأعراض البرد إلى التزام منازلهم لمدّة 7 أيّام. إضافة إلى التزام غسل اليدين باستمرار والحفاظ على قواعد النظافة العامة حسب التوصيات التي دعا لها الجميع[4].
قد تعلن الحكومة، في حال جوبهت قراراتها بالنقد والرفض، أنها تبنت استراتيجية مناعة القطيع. لكن في الواقع لم تتبن الحكومة مناعة القطيع، فهي استراتيجية رغم قسوتها فإنها سياسة مخطط لها. أما الحكومة المصرية فهي في الحقيقة قررت التخلي بشكل كامل عن مسؤوليتها تجاه المجتمع، وقررت ترك الناس يواجهون أقدارهم منفردين؛ بعدما تبين لها عجزها عن دفع تكلفة مسؤوليتها عن صحة الناس، وبعدما تيقن صانع القرار أن تكلفة حماية المواطنين من الوباء أعلى بكثير من مكاسبه، مع العلم أن صانع القرار في مصر يتعامل بمنطق التاجر وليس بمنطق الدولة المسؤولة عن مواطنيها، مهما كانت كلفة هذه الحماية، وذلك لأن الدولة في الحقيقة مفوضة من المجتمع لإدارة شؤونهم واستثمار موارد أرضهم لتحقيق مصلحتهم، لكن النظام المصري لا يرى ذلك، لأنه ببساطة يرى أن الشعب لم يصل به للسلطة، إنما وصل للسلطة لأنه يمتلك السلاح الذي يخضع به الجميع.
ومما يؤيد فكرة أن الدولة لم تتبن في الحقيقة استراتيجية مناعة القطيع، إنما ببساطة تخلت عن مسؤوليتها الاجتماعية؛ أن لندن التي أعلنت تبنيها استراتيجية مناعة القطيع قد تراجعت عن ذلك بعدما أثارت حفيظة الأوساط الصحية والشعبية، حيث لم تلق استحساناً من قطاعات واسعة من المواطنين والعلماء المختصين، وهو ما عبرت عنه رسالة موقعة من 245 عالماً بريطانياً ودوليّاً، تطالب بإجراءات أكثر صرامة لمنع التجمعات البشرية. واستجابة لهذه الضغوط طالبت حكومة المملكة المتحدة مواطنيها بالبقاء في المنازل، واتخذت إجراءات في اتجاه العزل الصحي للحد من انتشار المرض[5]، ذلك على الرغم من أن بريطانيا تتمتع بالتأكيد بجهاز صحي أفضل وأقوى وأكثر فاعلية من المؤسسات الصحية المصرية بكثير.
فالمجتمع المصري لا يمتلك من الجاهزية والاستعداد الذي يسمح له بتطبيق استراتيجية مناعة القطيع؛ فتنفيذ مثل هذه الاستراتيجية يحتاج جاهزية المؤسسات الطبية والعلاجية، ويستلزم وجود مستوى دخل مرتفع لدى غالبية المواطنين يجعلهم يحظون بحياة صحية وبغذاء متكامل وبرعاية جيدة في حال تعرضهم للمرض، مع العلم أن هذه الشروط ليست متوفرة في مصر، حتى في أدنى أشكالها، وهو ما يجعل تنفيذ استراتيجية "مناعة القطيع" بمثابة مخاطرة غير مأمونة، أو بمعنى أوضح بمثابة كارثة متعددة الجوانب.
ببساطة وبشكل مختصر، فإن تبني الحكومة المصرية لمناعة القطيع ليس خياراً عقلانياً، كما هو الحال في بريطانيا، إنما هو نتيجة مباشرة للعجز، وللنفعية التي يتسم بها النظام الحالي، والذي صرح أكثر من مرة بأنه لن ينفق جنيهاً إلا إذا كان نتيجة ذلك أن يربح ما هو أكثر.
ماذا بعد؟
في النهاية: سيتراجع النظام المصري تدريجياً عن الإجراءات الوقائية من فيروس كورونا، وسيشاهد منتشياً ضحايا الفيروس الذين سيسقطون جراء ضعف المؤسسات الصحية وغياب الدولة. ولن يتضرر المسؤولون الكبار من هذه السياسات؛ فسيواصل الرئيس اختباءه وأسرته خوفاً من المرض، وسيختفي معه المسؤولون الكبار، وفي نفس الوقت ستستمر مطالبتهم للناس بالنزول للشوارع، وبإقناعهم بأن كورونا أمر واقع يجب أن نتقبله، وأن خطورة توقف عجلة الاقتصاد أخطر علينا من فيروس كورونا.
النتيجة: يمكن القول إن المصريين باتوا في حاجة ملحة لمعارضة وطنية قوية قادرة على فرض نفسها كرقم صعب في معادلة الحياة السياسية المصرية، تجبر النظام على أخذهم في الحسبان عند تقرير سياساته، وأن المجتمع في حاجة لتسييس مجموعات جديدة تغذي المعارضة الضامرة وتكون أكثر قدرة على مفاجئة ومراوغة النظام؛ باعتبارها جديدة لا يعرف النظام بعد الطريقة الأنسب للسيطرة عليها وتنميطها. وبحاجة أيضاً لدعم وتنشيط المجتمع المدني والأهلي وقيم التكافل والتراحم والتعاون لتعويض غياب الدولة وتخليها عن أدوارها.
النقطة الأخيرة: أن كل فرد وكل أسرة مجبرة على حماية نفسها وتحديد الطريقة الأنسب للتعامل مع الوباء، والتوقف عن انتظار الحماية من دولة أعلنت تخليها عن مسؤوليتها الاجتماعية.
[1] بوابة الأهرام، عودة العمل تدريجياً بالشهر العقاري والمحاكم والمرور والمراكز التجارية الأسبوع المقبل، 23 أبريل/نيسان 2020، الرابط: https://bit.ly/2XXU4gx
[2] اليوم السابع (فيسبوك)، القرارات والتفاصيل الكاملة لخطة الحظر ومواعيد المحلات والمولات في رمضان، 23 أبريل/نيسان 2020، الرابط: https://bit.ly/3byYHBH
[3] فقد استثنت الحكومة من الحظر: جميع خدمات توصيل المأكولات والمشروبات والبضائع للعملاء، سواء كان الطلب عن طريق التطبيقات الإلكترونية أو غيرها. المخابز، ومحال البقالة، والبدالين التموينيين، ومحال الخضراوات أو الفاكهة أو اللحوم أو الدواجن أو الأسماك، والصيدليات، والسوبر ماركت المتواجدة خارج المراكز التجارية، وأسواق الجملة، على أن يقتصر العمل بها خلال ساعات الحظر على استلام وتسلم البضائع دون استقبال الجمهور. كذلك جميع المصانع ومواقع أعمال المقاولات المرخص بها، والموانئ، والمستشفيات والمراكز الطبية، والمعامل الطبية، والمستودعات، والمخازن الجمركية، وماكينات تزويد المركبات بالوقود، ومراكز الصيانة السريعة بمحطات الوقود، وجميع وسائل الإعلام، وخدمات طوارئ شركات الكهرباء وقطاعات توليد الكهرباء، وخدمات طوارئ شركات الغاز، وخدمات طوارئ شركات المياه ومحطات رفع وصرف ومعالجة وتحلية المياه، وخدمة مشغلي شبكة المعلومات الدولية وشبكات الاتصالات، وتطبيقات المشتريات الإلكترونية وبطاقات الصراف الآلي، والتخليص الجمركي، ولجان تسويق الأقماح. المصدر: رئاسة مجلس الوزراء المصري (فيسبوك)، تفاصيل قرارات رئيس الوزراء ضمن الإجراءات الاحترازية لمواجهة فيروس "كورونا" المستجد، 8 أبريل/نيسان 2020، الرابط: https://bit.ly/3aid4cn
[4] الشرق الأوسط، "مناعة القطيع"… خطة تطبقها بريطانيا لمواجهة "كورونا" وتواجه انتقادات، 16 مارس/آذار 2020، الرابط: https://bit.ly/3dmpxOM
[5] القبس، بعد ضغوطات شعبية وصحية.. بريطانيا تتراجع عن استراتيجية "مناعة القطيع" في محاربة كورونا، 17 مارس/آذار 2020، الرابط: https://bit.ly/2JaDAJm
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.