"أنا حضرت جنازتي، أنا شفت بروفة لوفاتي، فقلت أنا مستعد دلوقت أموت، دي بروفة جميلة، كل الناس دي هتيجي؟ كل الناس دي هتزعل عليا؟ دا إيه الحلاوة دي".. كان هذا هو رد الجميل "إبراهيم نصر" حين أُشيع خبر وفاته العام الماضي، وقال وهو يملؤه الفرح: "أنا أول واحد أحضر جنازتي".
وأوحى لي الفنان الراحل بفكرةٍ عبقرية لبرنامج مقالب آخر، برنامج يكرّم أصحاب الفضل قبل موتهم، لأن الناس يشغلهم كثيراً كيف ستكون وفاتهم، وكيف سيكون رد فعل الناس بعدها، ماذا سيقولون، وبمَ سيتذكرونهم، وإلى أي حد سيشعرون بالأسف، سيشعرون بالندم، سيدعون لهم، سيخلِّدون ذكرياتهم، وإلى أي مدى أثرت الأعمال بهم، فصاروا أصدقاءهم، وصاروا "من بقية أهلهم"؛ بل في حال كثير من الفنانين "المقطوعين من شجرة"، يكون الجمهور هو أهلهم ولا أحد آخر. ونشيع في البرنامج خبر وفاة الرجل، بالاتفاق مع أحبابه، ثم يرى كيف سيستقبل الناس الخبر، حينها سيفرح، ويشعر بالتكريم، فإن كان إكرام الميت دفنه، فإكرام الحي إخباره بأننا نحبه، وبالتأكيد هذه مجرد فكرة ربما غير قابلة للتطبيق، فقط تخيلتها.
مات إبراهيم نصر، ولم تمت زكية زكريا، بقيت ذكرياته عالقةً في قلوبنا، وحلقاته باقيةً في عيوننا، وقفشاته دارجةً على ألسنتنا، وضحكاته في أسماعنا لم تنطفئ يوماً ولم تخفت، كلما أصابتنا الكآبة وأعيانا الزمان، واشتقنا إلى الماضي ولمّة العيلة أمام التلفاز، لم يأتِ إلى بالنا أحدٌ أسرع منه.
وإن بحثنا عن سر تألقه، عن سر حبنا له، سنجد أنه أنشأ للكوميديا مفهوماً آخر عبر برنامج المقالب، أنه انزوى تماماً عن المشهد، وأظهر لنا البطل الحقيقي، كل هؤلاء الناس هم الأبطال الحقيقيون: البواب والفكهاني والنجار والحداد والطباخ والجزار والصنايعي والشيال، وغيرهم، هؤلاء هم سر الضحكة، طبيعتهم التي تظهر حين يستفزهم أحد، ردودهم الكوميدية في شعبٍ ضاحك بطبعه، انطلاء الخدع عليهم وعصبيّتهم حتى تصل الأمور إلى اللحظة التي يكشف لهم فيها هويته ومكان الكاميرا الخفية، أو يرمي عليهم بروكَته معلناً عن زكية زكريا.
ليقول لنا إن السر في الكوميديا هو العفوية، عدم التصنع، الانطلاق على السجية، أن يكون الفنان منصهراً في الناس، مختلطاً بهم، يستمد ضحكته من ثغورهم الباسمة وعيونهم الطيبة، أن يكون الكوميديان خرّيج مدرسة "إبراهيم نصر"، التي ما زالت تشكّل مخزوننا من الإيفيهات حتى اليوم، و"انفخ البلالين يا نجاتي"، أن يَظهر الرجل على طبيعته، دون أن يتكلف الضحك، أو أن يقول "عَروبية" بدلاً من "عربية" -يقصد سيارة- ولا أدري ما المضحك في ذلك؟ وأين الإفيه؟ وما السر في أن نلوي الجمل والعبارات بشكل مستفز، كم يتعمد "العبط" أمام طفلته ليضحك، ونحن يا سيدي الأراجوز لسنا أطفالاً.
حتى إن بعض البرامج والمسلسلات أشعر في استعانتها بالجمهور الكومبارس الذي يضحك، كالحملات الانتخابية، الجميع يعرف أن المرشح كاذب ولن يبني مكتبة ولا مستشفى، لكن الكومبارسات يصفقون، ولذا سيصفق الجميع.
ومن إبراهيم نصر، والكوميديا النظيفة، التي يراعي فيها أن البيت سيشاهدها، وأن الأسرة ستتحلَّق أمام التلفاز لأجلها، وأنه يُدخل النكتة إلى قلوب الملايين أمام قنوات ماسبيرو، فيسعى إلى الرُّقي دائماً، مؤكداً أن الضحك لا يقتضي الابتذال ولا الإهانة، وأن النجم الحقيقي هو ذلك المواطن البسيط، الذي لولاه لَما كان "إبراهيم نصر"، وهذا ليس تحليلي، وإنما هذا ما أراد أن يوصله هو بوضوح.
إلى يومنا هذا، إلى اليوم الأغبر الذي نعيش فيه "أتقل دم" في تاريخ مصر، مصر التي وجدت على الخريطة وطناً عربياً كئيباً فـ"زغزغته" حتى غرق في الضحك إلى الرُّكَب، وكلما فرغ العالم العربي من الضحك، قال لمصر "كمان واحدِة"، فتُضحكه مجدداً، ولا تفنى حقيبتها أبداً من الحواديت والقهقهة.
المهم، كنت أتكلم عن اليوم، اليوم الذي يأتي في أنصاف المواهب وأشباه الفنانين، ليدفعوا ملايين لأشباه فنانين أيضاً، يتفقون معهم على الضحك، يمثِّلون المقلب، ونحن أصدقاء زكية زكريا، نعرف كيف تكون المقالب طبيعية، ومتى تكون مزيفة، فيقبض الرجل أجره على النكتة، التي تكون "بايخة" جداً في العادة، ويقبل أن يُسَب، وأن يهان، وأن يتعرض للتعذيب، وأن يرى الناس "قِلّة القيمة" تلك، التي يصنفونها "كوميديا" لكنها في الأصل نوع آخر، لا بد أن نجد لها اسماً وتصنيفاً في عالم التلفزيون والسينما، ربما سأجعل دراسة الماجستير بعد التخرج، عن إضافة مسمى "ابتذال" في هذه التصنيفات، ويقبل المسؤولون ذلك، فيفهم الساذج من هؤلاء أنه يقبض المال ويربح من المشاهدات لكن من خانة السخافة و"الجليَطة".
ويظن الرجل من هؤلاء، أنه سيبقى إلى أن يموت معشوق الجماهير، الآخرون يفعلونها لا بأس، لكن من دون أن يفرضوا أنفسهم على الناس، من دون أن يكون جلدهم عشر طبقات بعضها فوق بعض، ثم يخرج عنوةً للناس في مسلسل جديد، ظانّاً أنه ما زال المفضَّل عندهم، آخذاً "زمنه وزمن غيره"، والحمد لله أنهم يفشلون، لكنهم للأسف يكررون الأمر في العام التالي، دون أن يعتبروا أو يفهموا أن لاعب الكرة يعتزل وهو في قمة تألقه، حتى يترك للناس هذه الصورة إلى الأبد، ودون أن يهبط مستواه فيضطر إلى الاعتزال بينما تبدأ نجوم أخرى في اللمعان، وحينها لن يتذكره أحد.
وأنا أشاهد هؤلاء، ينتابني شعور بالقرف، رغبة مزعجة في الغثيان، لأن المال يمكنه أن يشتري كل شيء؛ حقوق البث، وأرباح القنوات، وشركات الإنتاج، والكوافير، وعمليات التجميل، وعمليات الشد والتكبير، وكتاب السيناريو، والمخرجين، والمصورين، وجمهوراً مزيفاً يضحك في الاستوديو أو في خلفية الموقع على إيحاءات قليلة الأدب، لكنه أبداً لا يمكن أن يشتري الضحك من قلوب الناس.
ومن "إديني عقلك" إلى "رامز مجنون جداً"؛ من احترام عقل المشاهد إلى إهانته والاستهانة به، فنجد "رامز جلال" يأتي بالرخيصين من نوعه نفسه، المغرمين بنسب المشاهدة و"الريتش"، ليقبضوا مقابل إهانتهم أمام الجمهور، ومما فيه أذى نفسي على الأطفال والكبار، وتحريض على العنف، وتقليل من كون "العذاب" عذاباً لا يستهان له، إلى مجرد لقطة، و"شاهد رامز يعذب فلاناً"، و"شاهد رد فعل الفنانة فلانة تحت التعذيب".
والمعتوه الآخر، نصف الموهبة، المبالِغ في تمثيل التمثيل، في "اغلب السقا"، ليأتي بآخرين تسألهم الكومبارس "رزان مغربي"، التي لا تجد لها في البرنامج فائدة، تشغل وقت الفراغ فيه فقط، أو كما في لغة التلفزيون "بتملا هوا"، فما بالك سيدي إذا كان البرنامج كله نفسه "ملء هوا"؟ ولا تستطيع وأنت تتابعه أن تخلص إلى شيء، إلى عبرة، إلى لا عبرة حتى، يعني ليس الأمر فقط أنك لا تستطيع تحديد فائدته، لا فإنك لا تستطيع حتى أن تحدد ضرره!
وتكملة لموضة "المقالب"، فإن "فيفي عبده" قررت دخول المجال بقوة، لتدخل من بابٍ وتخرج من الباب الآخر بعد أول خمس دقائق، دون أن يتقبَّلها أحد، على هذا الكم من التزييف والدم الثقيل، كأنهم يريدون إعادة تدوير أنفسهم في عيون مشاهدين، لا يستطيعون الضحك إلا على ما يضحكهم وفقط.
ولا أدري في الحقيقة ماهية تلك "المقالب"، مقالب كوميديا؟ أم مقالب زبالة؟ الرائحة سيدي المشاهد تخبرك بوضوح.
مات إبراهيم نصر، كما قَبله كثيرون من أصحاب الفن الجميل، وعاشت الضحكة الحلوة ينتشلونها منا قبل أن تموت وقبل أن نموت، حتى وهُم في قبورهم، ويشاركوننا النكتة التي نحن جميعاً أبناؤها، ويجعلون ملايين الجنيهات المصروفة على الاستديوهات الأنيقة والمسلسلات المبتذلة أصفاراً لا قيمة لها، مقابل مقطع واحد من دقيقتين، يظهرون هم فيه، وهم على قلوبنا زي العسل، وهم في قلوبنا على رأي المثل وكما يقول العم أنيس منصور: "ليس فقيراً من لا يزال قادراً على الضحك"، فشكراً لإبراهيم نصر وألف إبراهيم نصر، الذين أمَّنوا لنا مستقبلنا من الضحك، وجعلونا أغنياء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.