هذه الأيام، تحول منزلي في هيوستن، تكساس إلى ما يشبه حديقة الحيوان. أصبحنا نقضي، أنا وزوجي وأبناؤنا وقتاً عائلياً على مدار الساعة، ولا يسير الأمر على ما يرام. الآن، على سبيل المثال، يصرخ الأطفال لأن برنامج Zoom لا يعمل، بينما أصرخ بهم حتى يسكتوا لأنني أريد التركيز على الأمور المهمة التي أكتبها. أنا مؤلفة كتب أطفال، والهدوء مطلب أساسي من أجل تدفق العصارة الإبداعية بانسيابية.
وللأسف، لم يعد لديّ أي عصارة إبداعية، بفضل الوباء الذي نال منّا جميعاً، عاطفياً إن لم يكن جسدياً. أنا في زمرة الأمهات الأمريكيات اللاتي يحاولن خلق حالة من التوازن بين حمل صعب جداً من الأعمال لم يكن مُخططاً لها؛ هناك ضغوط العمل من المنزل، بسبب اقتراب المواعيد النهائية للناشرين بسرعة هائلة. أتشارك مع زوجي مكتباً منزلياً صغيراً، تصطف حوله مقاعدنا عكس بعضها البعض في وضعية تصبح مزعجة جداً إذا حاول أحد منّا تغيير وضعه. وهناك مهمة تعليم الجبر والعلوم، واكتشاف ما يجب إرساله في المسافة الفنية التي تحرص المدرسة على مواصلتها في وسط كل هذه الفوضى. وهناك مهمة الطهي طوال الوقت، والتي أسمع خلالها أطفالي يشتكون ويتساءلون عن سبب تناول الطعام الباكستاني مجدداً. وهناك مهمة التنظيف؛ لماذا توجد كل هذه الأطباق؟!
والآن، حلّ شهر رمضان.. في كل عام، كنت أتطلع إلى شهر رمضان باعتباره فرصة للسكينة والتواصل الروحاني. إنه الشهر المقدس للمسلمين، نصوم فيه من الفجر حتى مغرب الشمس. ومثل أي مهاجرة مسلمة أمريكية تربّي أطفالاً أمريكيين من الجيل الأول للمسلمين، كنت أعتبر رمضان دائماً فرصة لغرس بعض التقاليد والقيم الإسلامية لدى الأطفال؛ نصلّي معاً، ونزور المسجد القريب للإفطار مع أصدقائنا. إنه شهر جميل، يتمحور دائماً حول السلام والتفكّر والصلاة.
ولكن ليس هذا العام بكل تأكيد.. فيروس كورونا يهيمن على كل شيء هذا العام حتى الآن، ويتضاءل تأثير شهر رمضان مثل أي حدث ديني أو ثقافي آخر. قد يبدو الصيام تجربة فردية، إلا أننا نحتاج إلى الصيام في بيئة مجتمعية بقدر الإمكان. في أي عام طبيعي، أشعر بالراحة كثيراً في هذا المجتمع. أتذكر عندما كنت طفلة وأنا أجلس بعيون ناعسة على مائدة السحور مع والدتي. لم يكن يُسمح لي بالصيام بعد، ولكنني كنت آكل معها، وكنت أجد سعادة كبيرة في ذلك. وفي المساء، كانت جدتي تدعونا إلى مائدة الإفطار جميعاً. ولا تزال الوجبات الباكستانية الشهية، مثل السمبوسك والشات وداهي فاتا، عالقة بكل تفاصيلها في ذاكرتي، ليس بسبب مذاقها فحسب، بل لأنها كانت تعني جلوس العائلة معاً لتناول الطعام.
والآن، أحاول بدوري نقل العديد من تلك التقاليد إلى عائلتي المهاجرة. أتذكر إعادة طهي العديد من وصفات جدتي، بنسبة نجاح معقولة جداً. أتذكر كيف كنت أحمل ابني الرضيع وأنا أتناول السحور قبل الفجر منذ أكثر من 13 عاماً، وأتذكر عندما أتمت ابنتي أول ختمة للقرآن في رمضان وهي بعمر السابعة. أتذكر السنوات الأخيرة عندما كان رمضان يتزامن مع الإجازة الصيفية، وكنا نقضي جميع أمسياتنا في المسجد.
هذه الأمسيات والتجمعات ليست رسمية، كنّا نصلي معاً، ولكننا كنا نأكل أيضاً ونضحك ونتبادل الأحاديث. يلعب أبنائي مع أصدقائهم في الساحة وفي ملعب كرة السلة. منذ بضع سنوات، في الرابع من يوليو/تموز، عيد الاستقلال، تجمعوا معاً في الساحة الخلفية للمسجد وأشعلوا الألعاب النارية، في مزيج احتفالي ديني ووطني بهيج. الصفاء الروحي الذي يكتسبه المرء هذه الأيام لا يكون عبر الصلاة فقط، وإنما من الصداقة والحب أيضاً.
قضى فيروس كورونا على هذه التجمعات، ولكنه لم يقضِ على الحب. احتجت إلى بعض الوقت كي أتمكن من التقاط أنفاسي بين كل الفوضى المتعلقة بالعمل والتعليم المنزلي لكي أحاول اكتشاف كيف أجعل شهر رمضان الفريد هذا العام أكثر تميزاً. لم يكن الأمر يتعلق بي فحسب، كان أطفالي يحتاجون إلى بعض الحياة الطبيعية بعدما انقلب العالم من حولهم فجأة رأساً على عقب. أقنعت ابنتي، المحبة للفنون، بتزيين رف الموقد بنجوم ورقية وحروف مرسومة وملونة. وشجعت ابني على الصيام معنا عدة أيام، لكي يعتاد عليه. وطهوت الكثير من الأطعمة واحتفظت بها في المجمّد، تحسباً لتلك الأيام التي قد لا أمتلك فيها أي طاقة لإعداد وجبات الإفطار.
والأهم، تمكنت من استقطاع بعض الوقت لنفسي. لا يزال هناك هذا الصراخ المتواصل بشأن عدم عمل تطبيق Zoom والمعاناة مع التجارب العلمية، ولكنني أتعامل مع هذه الأمور في وقتها. وباستثناء بعض المهام ذات التوقيت الحساس، لا أكتب كثيراً. أحاول إبطاء وتيرة الحياة، والاستمتاع بالهدوء، لا أتذكر أنني كنت قادرة على التنفس بهذا العمق منذ عقود.
لقد دفعني هذا الوباء إلى العودة إلى الله، وعبادته بحالة روحانية فريدة كنت نسيتها. ربما توقاً إلى حياة أبسط، أو أملاً في أن تشفي صلواتي مصابي العالم وتهزم الفيروس. قد يبدو ذلك أملاً مستحيلاً، ولكنني أؤمن أن هذه هي الحكمة من شهر رمضان الفضيل.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Independent البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.