نظرت من النافذة المقابلة لمكتبي إلى الشارع المعبَّد الخالي من حركة السيارات والراجلين، بسبب الحجر الصحي. صحيح أن الهواء أصبح أكثر نقاوة، كما يتهيأ لي أن الطيور كثرت، أسمع زقزقاتها من الشجرة الكبيرة التي تطل على شرفتي من حديقة المجمع السكني الذي أعيش به في باريس.
رجعت بنظري إلى الحاسوب الذي كنت أفرِّغ فيه محتوى حوار صحفي مع أحد الباحثين في مجال الأوبئة، ساعة من الحديث بلغة فرنسية رديئة وجُمل يبدؤها دون أن يُنهيها، تذكرت وأنا أكرر التسجيل على مسمعي حتى أتبين ما يقوله الباحث، أنه بعد إنهاء تفريغ المحتوى عليَّ أن أتطرق إلى ترجمته، قلت بصوت مرتفع: يا الله، كأنه لا يكفيني عذاباً أن أقضي رمضان وحيدة بعيدة عن الوطن والأهل في حجر صحي، أزيد عذاب السماع إلى ساعة من الكلام غير المفهوم؟!
في هذه اللحظة تذكَّرت طبع أبي في محادثة نفسه في أثناء مزاولة مهنته وابتسمت: وأخيراً أصبحت أُشبه أبي.
كان "رصاصاً" وكان غالباً ما يحب العمل وحده، كان يتقن عمله جيداً وينهمك فيه فتحس به وهو يعمل كأنه انعزل عن العالم من حوله، فتسمعه يحدِّث نفسه قائلاً: سأكسر جزءاً من هذا الحائط، وأضع هذه هنا… وأنا صغيرة كنت أعتقده يستشيرني، لكن بعد أن حاولت التجاوب معه وبعد أن تكرر الحال فهمت أنه يحدِّث نفسه.
كان له دكان صغير في الأحياء التاريخية من مدينة فاس، يفصل بين الدكان وبيتنا باب صغير لا ينتبه له الناس، لكنه كان ذلك الباب الذي أسافر عبره من عالَم أُمي إلى عالَم أبي، مررت منه مراراً كالحمام الزاجل أنقل طلبات أمي التي تُعد طعام الإفطار وأرجع إليها بالطلب بعد دقائق.
بأحياء شعبية كهذه جارك على اليمين لبّان وعلى اليسار خبّاز وفي الواجهة دكان وإلى جانبه رجل كبير في السن يجلس القرفصاء، أمامه قُفة بها نعناع وقصبر وبقدونس، وفي نهاية الشارع حمام شعبي، وصانع ملابس تقليدية وبائع أسطوانات موسيقى يصدع من محله برمضان منذ الصباح صوت المقرئ عبدالباسط عبد الصمد وهو يتلو سورة يوسف، لم يكن الفضل لأمي وأبي ولا للمدرسة في حفظي سورة يوسف وإنما لصاحب دكان الأسطوانات.
تنهدت وأنا أتذكر تلك التفاصيل التي كانت جزءاً من طفولتي، لم أعتقد يوماً أنني سأغادر مدينة فاس.
وأنا صغيرة كنت أعتقد أن العالم هو تلك المدينة، كانت عالمي، الآن وقد كبرت وزرت مدناً ودولاً بقارات مختلفة، اكتشفت أنها عالَم جميل يمكن أن يكون قائماً بحد ذاته يكتفي بنفسه عن العالم من حوله.
قد يشعر بما أشعر به من عاش بأحياء القدس، بِحارات حلب أو حي الحسين في القاهرة، بهذه المدن طعم الحياة مختلف، أجواء رمضان مختلفة، الأحياء هنا ليست بنايات وشوارع من حجر، هي روح تعمر هنا منذ مئات السنين، لربما كمّ الأحداث التي شهدتها هذه البنايات هو ما يجعلك تحس بأنها ليست مجرد حجر، هي تاريخ عريق مليء بالصمود والهزائم، مليء بالعِبر هي قصة تحكيها أبواب المدينة الخشبية بزخرفاتها الجميلة، شوارعها المغطاة التي تجعلك تحس بأن المدينة بأكملها بيت واحد.
فاس، حلب، القدس، القاهرة.. مدن لسنا نحن من يذب بها الحياة بل هي من يذبها فينا، لا نرمم جدرانها، هي من يرمم أرواحنا، هي الشاهد على حضارتنا وعلى رجولة أسلافنا، هي الشاهد على عطائهم وصمودهم.
هذه المدن تصوم مع الساكنة وتعيّد معها، تلبس ثوب الوقار برمضان، تستفيق الليل وتنام النهار، ثم تسرع الحركة عند اقتراب الأذان، تتجمل يوم العيد وتحاول إخفاء حزنها على انتهاء الشهر المبارك.
بدأت الشمس بالغروب، لم أنتبه لمرور الوقت، فهذا العمل الذي بين يدي عليَّ أن أكمله في ثلاثة أيام بدل أسبوع، ما يجعلني أداوم عليه ليل نهار، فتحت صفحة على الإنترنت وتأكدت من ساعة الإفطار، هنا لا أذان ولا مدفعية ولا إنذار حرب كذاك الذي اعتدت سماعه بمدينة فاس معلناً عن وقت الإفطار، يطلق عليه ساكنة فاس اسم "الزواكة"، اكتشفت حديثاً أنه صوت إنذار عن اقتراب عدو يصدر من برجين شُيدا في عهد "السعديين"، أصبح يُستعمل للإعلان عن رؤية هلال الصيام وعن الإفطار وعن رؤية هلال العيد، فكنت أفرح عند سماعه منذراً بدخول شهر رمضان، وأخشع عند سماعه طوال أيام رمضان، وأبكي عند سماعه معلناً عن حلول العيد وفي الوقت نفسه مودِّعاً لنا، ولكي يودعنا كان يتكرر سبع مرات، كأن رمضان يودِّعنا بطقوسه، ببركته التي تحل به، بشعور السلام الذي ينشره في شوارع المدينة وأحيائها، كنت أبكي كل سنةٍ حزينةً لفراقه قبل أن تحل محل الحزن فرحة طفلة بحلول العيد.
وأنا صغيرة كنت أعتقد أن رمضان شخص وأن إنذار الإفطار ذلك صوته القوي، كنت أعتقد أنه هو من يمر ليلاً يدقُّ على الباب وهو يكرر زجلاً بصوت رنان جميل، كنت أعتقد أن رمضان رجل يغيّر الأسماء والأدوار حتى يوفر لنا جواً مليء بالخشوع لممارسة عباداتنا، هو الصيام نهاراً وهو "الزواكة" عند غروب الشمس، وهو "الدقاق" قبل بزوغ الفجر.
حاولت أن أسمع مضمون ما يقوله لكن صوت الباب الذي كان يهتز بقوة تحت وقع ضرباته كان يمنعني من ذلك، سألت عن مضمون ما كان يردده "الدقاق"، ذلك الرجل الذي كان يجعلنا نستفيق للسحور، فوجدت أنه كان يردد أبياتاً في مدح النبي عليه الصلاة والسلام باللهجة المغربية فيقول:
"صل الله على القرشي ويلا صبت الجهد نمشي…يلا صبت الجهد نمشي ونزاوك فالحرم ديما
صل الله على الطاهر وسنانو مثل الجواهر… خدو بلعمان زاهر، يا سعداتي بيه ديما
صل الله على حبيبي والصلاة عليه ديما، محمد هو طبيبي، شافعنا يوم القيامة
أمحمد يا رباحي، نمدح فيك مع صباحي، ويفك المولى جراحي، يا سعداتي بيه ديما"
توجهت إلى المطبخ لإعداد شيء بارد أفطر به وأطفئ به حرقة الشوق إلى وطني، إلى مدينة فاس وأهلها وأجواء رمضان بها.
رجوعي نهائياً إلى الوطن يراودني دائماً، إلا برمضان فهو يلازمني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.