من أيام قليلة قبيل شهر رمضان أنهيت حضور حلقات مسلسل من ذاكرتي القديمة، ومرة أخرى بعد 15 سنة عن أول بث للمسلسل على الشاشة التلفزيونية المقعرة آنذاك.
بألوان وديكورات باهتة في منظور عالم الصورة الرقمي المتسارع اليوم، ولكنه مبهج من زوايا أخرى عديدة.
في 1999 وقت أن كانت حلقة من حلقات أي برنامج تلفزيوني نحبه شيئاً ثميناً، كل لحظة وكل كلمة وكل تفصيلة في المشهد؛ لأنه وبكل بساطة ما ذهب منها لا يعود، فلم يكن في ريموت الشاشة المقعرة زر للرجوع أو التقديم أو التوقف حتى، إذ لم يكن قد تم اختراع اليوتيوب الذي يوفر كل هذه السمات بضغطة زر بسيطة.
ربما يقرأ البعض سطوري هذه ويفهمها إن كان من ذلك الجيل، أما اليوم وعندما أخبر أولادي بأن قراراً واحداً من أمي بحرماننا من حلقة من برنامجنا المفضل كان كفيلاً بأن تبكي عيوننا وتنكسر قلوبنا.. فما ذهب لا يعود بما تعنيه حقيقة هذه الكلمات.
يضحك أطفالي مني اليوم عندما أخبرهم بقصة من دموع الذكريات على أطلال حلقة من فيلم كرتوني ضاع عليّ بعض من مشاهده.
قبل 15 عاماً شاهدت حلقات مسلسل "الفصول الأربعة" كلها، المسلسل السوري الإنتاج. ورغم أنه كان بتكلفة إنتاج تعد متواضعة أو خجولة.. لكنه كان مبهراً وقتها في عيني فتاة في السابعة عشرة من عمرها.. وكان حديث الصديقات والقريبات والسيدات.
ورغم أني من الأردن فإن سحر الدراما السورية كان متغلغلاً في مجتمعنا.. اللهجة والعادات المتقاربة ربما. ولابد أن ترى نفسك في شخصية أو أكثر من شخصياته.
ففي "الفصول الأربعة" سيناريو وحوار محبوكان بدقة ليعبرا عن كل ما يجول في نفوسنا أو حواراتنا من مواقف وآراء لتفاصيل اجتماعية في حياتنا اليومية.. قضايا المرأة والأسرة والطفل.. صراع الفكر الاشتراكي والرأسمالي في قالب حوار اجتماعي منسوج بحرفية.. المجتمع الذكوري وازدواجية المفاهيم خلف الكثير من أبواب بيوتنا العربية.
بعد مرور سنوات طويلة.. وجدت نفسي أبحث عنه في اليوتيوب، حتى شاهدته كاملاً بجزأيه مرة أخرى، أو أكثر لأكون أكثر دقة.. ولكنه اختلف وأنا أشاهده في عيني سيدة ثلاثينية متزوجة ومغتربة ولها أولاد.
لم تبهرني هذه المرة نفس التفاصيل التي أعجبتني وأنا أصغر سناً.. ضحكت وبكيت وطابقت الشخصيات في عقلي مع الواقع بطريقة جديدة.
ففي حلقات المسلسل التي زادت على الستين حلقة.. مرّت عليّ الكثير من القضايا الاجتماعية التي فهمتها اليوم أكثر من ذي قبل.. عرجت على قلبي ذكريات وشجن عن فترة من الحياة لن أعود إليها.
"الفصول الأربعة" هو ربما مسلسلي المفضل من تلك الحقبة التي أراها نسيجاً من الذكريات.
وهو مثال لحقبة من الدراما العربية كانت سهلة ممتنعة.. عميقة في المواضيع والحوارات التي نسجتها.. والأهم أنها أكثر شبهاً فينا.
لا أنكر أني أتابع دراما اليوم.. فلم أقاطعها لسبب مبدئي، ولكني لما عدت إلى "الفصول الأربعة" شعرت بالفقدان لهذا النوع الذي يزور الشاشة، لا أقصد التلفاز فحسب.. بل كل أنواع الشاشات التي ملأت تفاصيل حياتنا.. والمضحك أني كأم أحبّ لأبنائي أن يعيشوا حقبة الفن والإنتاج المحترم، المتمثل في سبيستون وأخواتها من الأفلام الكرتونية من ذلك الزمن.. ومرايا ويوميات ونيس وأخواتها من الإنتاجات الدرامية الخالية من الإيحاءات الفجة التي تعج بها الشاشات اليوم.
أشفق على جيل يفتح عينيه على شباك شاشة إلكترونية كل ما فيها يعزز سيولة في هويته واختلاطاً وتمييعاً حتى.
لقد نجحت حتى الآن -وأقول الله يستر- في جذب أبنائي لروائع ذلك الزمن.. فروايتي كأم وطريقة سردي هي ما يجذبهم أو ينفرهم.. على الأقل هذا ما بدا لي حتى اللحظة.
عندما كنا صغاراً كنا نسمع الكبار يتحدثون عن زمن الشاشة المقعرة ذات اللونين الأبيض والأسود ويسمونه زمناً جميلاً.
وعرفت اليوم أن كل ما مرّ في فترة نشأتنا من تلفزيون أو أدب أو مسرح أو غناء أو نشيد هو زمننا الجميل.. ولا بأس بأن يكون الزمن الجميل من أكثر من حقبة لا سيما إن نسجت بخيالي وتجميعي.
وتوصلت لقناعة أن لكل منا زمنه الجميل الذي يعلق عليه تفاصيل ذكرياته.. ويعود إليها عند كل حالة نوستالجيا تجتاحه أو تعتريه.
وقد بقيت لديّ مرة واحدة أعيد حضوره مع طفلتي التي أنتظر أن تكبر بضع سنوات لأتقاسمها حضوره.
أقول قولي هذا ومشاهد وانتقادات كثيرة تلحّ عليّ لتردي القيمة والهوية في إنتاجات اليوم من الدراما العربية إلا ما رحم ربي من عمل فني نسميه "متعوب عليه".. إنتاج كثير كزبد البحر وما يبقى منه في الذاكرة فيؤثر في أرواحنا أو يثقفنا بفترة ما من التاريخ أو يلامس القيم الإنسانية فينا أصبح قليلاً وقليلاً جداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.