"إحنا في مدينتي كلنا شبه بعض"، قد تضطر لمقابلة تلك العبارة الاستفزازية كل برهة في الإعلان الترويجي الذي نُشر هذه الأيام عن مدينة الإنشاء السكنية في مصر "مدينتي"، تطاردك كعفريت فر لتوه من الجحيم، طلسم يتردد في كل القنوات بشكل سمج، لتؤكد أن النظام الرمضاني هذا وصل إلى مستوى مجنون من الطبقية، ورغم اعتيادنا عليها؛ لكن الوضع قد زاد عن حد اﻻحتمال، وبسبب الحظر الصحي المفروض تجلس رغم أنفك في حجرتك المتواضعة تتابع صراعاً مسلسلاتياً أتفه من أحجية الأطفال، وتقابل إعلان "مجموعة طلعت مصطفى" الشهيرة، فتجد نفسك مع رسالة محددة جداً هي أن هناك مدينة عالمية على أرض مصرية، كما يدعون، لكنها مبنية أساساً كي تضم فيها طبقات مجتمعية معينة بعيدة عن خيالك الضعيف، ليست لك؛ لكنها مخصصة للأغنياء والأثرياء وشعوب الكومباوندات، ينعمون فيها بحياة مرفهة بعيداً عن العشوائيين من أمثالي وأمثالك.
إنك -للأسف الشديد- تعلم جيداً الفارق الضخم بينك وبينهم، وتشعر مع كل ثانية تمر بما ينقصك، وهناك أناس مواطنون شرفاء يعيشون تحت رحمة الجوع والفقر مجبرين على المشاهدة التي تنغص حيواتهم، وأنا قد توقعت ذاك الحال وشرحته على لسان البطل في "رواية فارس" روايتي الأخيرة، فقد أردت أن يكون اعتراضاً موثقاً في عمل يخلد ويقرأه الآﻻف، ولحكمة الإله تتحول عبارة "فارس" لواقع يعاني منه الملايين، وبالأمس راسلتني واحدة من قرائي العزيزات وناقشتني في نفس الجملة، وقالت إنها تعبير حرفي عن حالها بالضبط، وكلما صادفت الإعلان رن صدى كلماتي في أسماعها، عندما قال "فارس" لرئيس مباحث أمن الدولة:
– "والله إحنا جيل حالياً من أتعس الأجيال، منفتح على العالم، عارفين كل حاجة فاتتنا بالتفصيل، عارفين عيشة الناس اللي مش عارفين نعيش زيهم، والأماكن اللي مش قادرين نروحها، متابعين الطبقات اللي إحنا مش منهم، واللي بيتفننوا عشان يحسسونا بالدونية أكتر وأكتر، والمسخرة إننا مطالبين نكون في أقصى درجات الرضا بالواقع، وكمان نصقف له، ونستحمل، عشان هما عندهم ضغوط وإحنا عندنا كحك بسكر! أقسم بالله الجهل ده نعمة ظهرت بوضوح دلوقتي بس".
الحكاية ببساطة على الشاشات عبارة عن سلسلة إعلانات ليس لها آخر، يتخللها بعض المقاطع القصيرة من المسلسلات السخيفة، وعداد من الأموال يتدفق بدون حساب، من حق الجميع التكسب بالطبع وليس عندي اعتراض، لكن مشكلتي مع الرسالة الإعلانية والفئة المخاطبة أو المستهدفة، فالإعلان الأخير لمجموعة طلعت مصطفى أظهر الطبقية التي يعيشها المجتمع المصري حالياً، وهو مثال فاضح وصارخ لميراث الدولة العميقة الذي خلفته حركة يوليو/تموز 1952م، ويبين مدى هشاشة اللفيف الجمعي للمواطنين عندنا، والذي يدعونا جميعاً للبحث في مشروعية حق المواطنة المشكوك في وجوده للأسف.
قد أكون ناقشت كل تلك الأمور الشائكة في "رواية فارس"، وركزت اللقطة الدرامية على منظور طبقي فج مدفوعون للتعامل معه، عن طريق الحدوتة القاسية التي عاشها "فارس" نفسه، وعرضت وجهة نظره المعبرة عن حاله وأحوال الملايين غيره، ممن طعنتهم يد الحياة، وكيفية معرفة الفروق المعيشية بين فئات المجتمع، في ظل الحياة المكشوفة بين الناس عبر منصات الإعلام والتواصل اﻻجتماعي، التي تستخدم لكل شيء إلا التواصل اﻻجتماعي! ولكني في رواية السابقة "الإمام الهارب" وصفت الوضع في التليفزيون الرمضاني هذا بالضبط، وهي منذ عامين، وقت ظهور طلائع جيش الإعلانات الخبيث ذا، حيث كتبت:
"نستمع إلى شوشرة صوت التلفاز الذي يعرض إعلانات تسول ممولة؛ إعلان ادفع للفقرا يليه إعلان ادفع لتسكن بعيداً عن الفقراء، الطبقية في شكلها الـOrganic، مع فواصل قصيرة لبعض المسلسلات، ديباجة عن مشروعات قومية تضع أمتنا في ترتيب متقدم بين الأمم، والنتيجة الملموسة لكل هذا شعب يعيش على هامش الحياة، فحكومتنا الفدائية تعلمت فن الحرب على جبهة الإعلام!".
طبعاً أنا ﻻ أنتقد الفئات التي تروج لها تلك الإعلانات، بالعكس، أنا كشخص تربطني صداقات قوية جداً مع أشخاص منتمين لكل طبقات المجتمع، ولكل واحد طبيعته ومميزاته وعيوبه كأي بشري، وكل مجتمعات العالم بها فروقات، وهذا شيء عادي، ولأي شخص حرية العمل واﻻجتهاد حتى يرتقي بنفسه أكتر، وهذا حق مكفول للجميع بدون أي شك، وﻻ يصح أن يحتكر أحد النجاح والمكسب على نفسه فقط دون غيره، لكني مستمر في تقديم مشروع أدبي معبر عن الواقع، بحيث يكون الحدث هو البطل عندي، ويسعدني رؤية واقعية ما كتبته أمامي برغم قسوته، وأعتقد أن تقديم فلسفة المواطن العادي منا كان منهجاً لكل سلف الأساتذة في الرواية الكلاسيكية، الذين استطاعوا أن يوثقوا مصر كلها بين السطور، ويضعوا مشاكلها ومحاولاتهم لحلها على الورق.
لكن من حقي ومن حقك أن نجد محتوى فنياً وإعلانياً يحترمنا على ما نحن عليه، فليس إلزاماً مقابلة أناس تقضي أوقاتها تنظيراً على خلق الله، وكأنهم يعايرون غيرهم بضيق الحال الذي يعانون منه، خصوصاً مع الظروف القهرية التي نواجهها جميعاً حالياً، من عطلة عمالية وبطالة وحجر في البيوت ومستوى مادي ينهار، وأصبحت الفلوس على كف عفريت ومعدومة البركة، وحالة غلاء مستوحش يفترس لحم العباد قبل جيوبهم، وحملات في البرامج التليفزيونية تطالب الناس بالتحمل لدرجة اﻻستنزاف، استنفار عام ضد الفقراء، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا من جعل منهم فقراء ومن تاجر بفقرهم؟! مع دعوات من أصحاب رؤوس الأموال لحث الدولة على رجوع العمل بأي شكل بغض النظر عما يتكبد من خسارة بشرية، لأن كل واحد فيهم ﻻ يتحمل الخسارة المادية، وليس مهما عنده أن يقتل ألف عامل وﻻ أن شركته تنهار، وحاجة آخر "لطفي أبوعنكبوت" جداً..
– "الـCommunity هنا مختلفة تماماً عن اللي برة!".
هذه عينة أخرى من العبارات العنصرية المستخدمة في الإعلان، وهي تؤجج الحقد الجمعي على البعض، ثم من العيب أن يشاهد العوام المعدمون تلك المصيبة كل لحظة، ﻷنها تفرز أجيالاً عندها تربص بغيرها ومستعدين لبيع أرواحهم للشيطان نفسه، من أجل أن يشاهدوا هذا المجتمع المدعى وهو ينهار، وبعد كل ما سبق نرجع لنتساءل كيف ينمو الإرهاب؟! وما هو إلا تفريخ مميكن للغل والغيظ من نماذج مشوهة يتم تصديرها على أنها عادية، ثم يقومون بتلميعها مع سبق الإصرار والترصد حتى تغدو نجوماً للمجتمع ومعبر رئيسي عنه، وقد ناقش الأدب العربي نشأة تلك الظروف كثيراً، وأيضاً هناك من توقع نهاية مأساوية للفروق الطبقية التي تزيد فقط، فنرى الغني يزداد مالاً والفقير يقترب أكثر من الهلاك، وقد تكون رواية "يوتوبيا" -رائعة الدكتور "أحمد خالد توفيق"- هي المثال الذي نقترب منه بسرعة متهورة، والخوف كله من كارثة اﻻصطدام الغشيم المحتم.
مشروع "مدينتي" والرسالة المبطنة فيه، تقول: أينعم، هذه "يوتوبيا" المرتقبة، مجتمع ثري خاص بالأثرياء فقط فيه البسطاء ما هم إلا خدم، سخرة بشكل عصري، يتركون العاصمة القديمة للفقر والجهل تحترق بأهلها، ومحرم عليهم -وسط الحريق- الصراخ، يقولون نحن كلنا ها هنا نشبه بعضنا، نعم، يا فقراء أنتم لستم منا ونحن لسنا منكم، لكن أخشى أن تكون نهاية هذا كله كما فعل "فارس" في روايتي الذي استخدم أدواتهم الجهنمية في إحراق ممالكهم الورقية!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.