لقد فرض فيروس كورونا نفسه على كل وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بمختلف اهتماماتها في كل دول العالم، وقلما قرأت في جولات التصفح الصباحية أو المسائية أخباراً أو مقالات لا رابط لها مع الفيروس، فلا صوت يعلو فوق أصوات المتحدثين عن آخر مستجدات كورونا "كوفيد 19" حصاد الضحايا قتلى ومصابون وتدابير الحكومات لحماية الأفراد والمجتمعات.
على مدار أسابيع اختفت النبرات والنزعات وأخبار النزاعات والعصبيات الإثنية والعرقية في خرائط الأخبار والتغطيات اليومية في مشهد تكاتفت فيه جميع الدول وكل البشر لمواجهة خطر لا يبقي ولا يذر، لا ينتقي ضحاياه حسب الجنس أو الدين أو اللون أو العرق. وعادت الإنسانية تحكم مواقف الأفراد، وتعاقبت الأحزان مع كل خبر عن ضحايا جدد لهذا الفيروس دون النظر لهوية الضحية.
استوقفني خبر قرأته في صحيفة يني شفق التركية بتاريخ 19 أبريل/نيسان 2020، يتحدث عن معاناة إنسانية ضخمة يواجهها لاجئو أراكان "الأقلية المسلمة" داخل مخيم يؤوي 250 أسرة في مقاطعة NUH في العاصمة الهندية نيودلهي، جراء قرار حظر التجول التي فرضته الحكومة الهندية على المنطقة بعد إعلانها منطقة موبوءة في إطار مكافحة فيروس كورونا، حيث تواجه هذه العائلات قلة الأغذية خاصة أن المنظمات الإغاثية القائمة على متابعتهم وإمدادهم بالسلع الغذائية والطبية أصبحت غير قادرة على توفير ما تيسر من احتياجاتهم.
تعقبتُ المسألة للوقوف على حقيقة الأمر والتعرف على الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الهندية للتخفيف عن اللاجئين والسماح للمنظمات الإغاثية بالعمل لصالح أقلية أخرجها التوحش اللاإنساني في بورما، وعدم زيادة آلامهم المتوفرة بما فيه الكفاية وتفيض، وبحاجة إلى دعم ورعاية لا تجويع وإهانة، ولم أجد إلا تعنتاً حكومياً مع المنظمات وعدم الاكتراث بمعاناة المخيمات وأهلها.
والأدهى أن قوات الشرطة في محيط المخيم لا تتردد في الاعتداء على من يحاول الخروج للحصول على أدوية أو أغذية ضرورية تقي بعض الحالات المرضية من الموت المحقق، في الوقت الذي لا تسمح فيه السلطات للمنظمات الإغاثية بتوصيل المساعدات لهم وفق ما صرح به "علي جوهر" أحد قادة المخيم، حصار لا يُنتظر منه إلا موتى بالجوع والمرض، كما قال أحد المقيمين في المخيم "جعفرالله".
موقف ينسجم مع أجندة الحكومة القومية لحزب الشعب الهندي بزعامة "NARENDRA MODI" المناهضة للإسلام وراعية العنصرية ضدهم، خاصة بعد الانتخابات التي جرت في مايو/أيار 2019، ذلك العام الذي شهد موجة عنف تزعمتها عصابات في العاصمة نيودلهي أسفرت عن مقتل 51 مسلماً هندياً وحرق وتحطيم عشرات المنازل ومحلات ومتاجر تعود ملكيتها لمسلمين، ثم أعقب ذلك ضم الحكومة الهندية غير الشرعي لإقليم كشمير ذي الأغلبية المسلمة لسيادتها في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
وفي مارس وأبريل/202، انطلقت موجة عنصرية وتحريض جديدة بحق المسلمين الهنود بدعم إعلامي قدمه التليفزيون الرسمي الهندي، وألصقوا بالمسلمين الهنود اتهامات نشر فيروس كورونا في البلاد، وأعقب ذلك اتخاذ إجراءات رسمية بحق زعيم جماعة التبليغ الهندية الشيخ محمد سعد قاندهلفي، وستة آخرين.
حيث تعود القصة إلى احتفال ديني سنوي تقيمه جماعة التبليغ "احتفال يقام منذ 100 عام" في حي نظام الدين بالعاصمة نيودلهي، يحضره الآلاف من كل أرجاء الهند وخارجها، ووفق الجماعة فإنه تم تعليق الاحتفال احتراماً لقرار الحكومة الهندية الصادر في 13 أبريل/نيسان 2020، بمنع التجمعات لأكثر من 200 شخص في العاصمة وبعض المقاطعات الأخرى.
وكان من المقرر إقامة الاحتفال في 14 أبريل/نيسان، وكان من الصعب إبلاغ الحضور القادمين من خارج العاصمة وخارج الهند نفسها، وبالتالي حضر المئات لمقر الاحتفال. واستغلال الوافدين الفرصة للحضور إلى حي نظام الدين التاريخي في ظل عدم قدرتهم على المغادرة بعد أن علقت الحكومة الهندية جميع الرحلات الدولية والداخلية. وأعلنت سلطات العاصمة إجلاء 2300 مشارك من الحي ووضع 1800 تحت الحجر الصحي.
لتنطلق الحملات الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي المعادية للمسلمين وتوجه لهم السباب والإهانات ووصل الأمر إلى اتهامهم بنشر فيروس كورونا بين الشعب الهندي، حيث انتشرت صورة يظهر فيها الصين "منتجة" للفيروس، والمسلمون هم من يوزعونه" وتضمنت الحملة العديد من الهاشتاجات المسيئة، منها #CoronaJihad ، #NizamuddinIdiots ، # Covid-786
على الصعيد الرسمي شارك التلفزيون الرسمي في حملة التحريض من خلال استخدامه لعناوين في التغطية الإخبارية مثل "أنقذوا البلد من كورونا جهاد" و"من هو شرير نظام الدين؟".
هذا في الوقت التي غضت فيه الدولة الهندية الطرف عن احتفال هندوسي مزدحم حضره والي مدينة أوتار براديش بالتزامن مع تجمعات جماعة التبليغ بمنطقة نظام الدين، بعد قرار حظر التجمعات، واستمر الاحتفال الهندوسي لمدة 10 أيام كاملة، تأكد وجود من بين الوعاظ والحضور مصابين بالفيروس، ورغم علمهم بالإصابة مسبقاً حضروا الاحتفال واختلطوا بعشرات الآلاف من المواطنين.
وتسبب الاحتفال الهندوسي في وضع 40 ألفاً تحت الحجر الصحي بالإصافة إلى 20 قرية في ولاية البنجاب بعد أن ارتبط تفشي الفيروس فيها بواعظ سيخي، وعلى الرغم من كل هذا لم تتخذ السلطات الهندية المسؤولة أي إجراء مماثل لما تم اتخاذه مع جماعة التبليغ.
كما أعرب رئيس وزراء إقليم كشمير الأسبق عمر عبدالله، عبر عدد من التغريدات على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" عن رفضه لمثل هذه الحملات التي تحض على كراهية المسلمين في الهند، وأن ما حدث في حي نظام الدين وإن كان عملاً غير مسؤول، إلا أنه لم يكن العمل الفريد أو الوحيد من حيث التجمعات، في إشارة إلى الاحتفالات الهندوسية وغيرها من الاحتفالات التي تشهدها الهند على الرغم من أزمة كورونا والتدابير التي من المفترض أن السلطات اتخذتها وتعمل على عدم الإخلال بها.
حملة خيمت بظلالها على سلوكيات مواطنين هنود قابلين للشحن ضد المسلمين ولديهم على ما يبدو كراهية تجاه المسلمين، لتتوالى وقائع العنصرية في حق المسلمين الهنود أعقاب هذه الحملة، حيث شهد عدد من المستشفيات شمال الهند إعلانات ولافتات مكتوباً عليها "لا نستقبل مرضى مسلمين" ولم يتوقف الأمر عند الإعلانات بل تم طرد عدد من المسلمين من بعض المستشفيات وعدم تقديم الرعاية الصحية لهم أو إجراء فحوصات فيروس كورونا للأشخاص الذين تظهر عليهم أعراض الإصابة.
وصل الأمر إلى اعتداء موظف بأحد مستشفيات ولاية جادكاندا على مواطنة هندية مسلمة حامل مصابة بالفيروس، بعد أن منعها من دخول المستشفى، وبدأ بالاعتداء عليها جسدياً بالضرب حتى مات جنينها وسط صمت رسمي وغياب مفهوم المواطنة وتطبيق القانون على مرتكبي مثل هذه الجرائم.
لا تترك الحكومة الهندية أية مناسبة أو موقف في الآونة الأخيرة إلا وأدلت بدلو يؤكد معاداة الحزب الحاكم للمسلمين وممارسة التمييز العنصري بحقهم، سواء كانوا مواطنين أو أجانب، وليس ببعيد القانون الذي صدر في 11 ديسمبر/كانون الأول 2019، بمنح اللاجئين من أفغانستان وبنغلاديش وباكستان الجنسية الهندية، لكنه استثنى المسلمين منهم.
إجراءات تضع الحكومة الهندية أمام مخالفات صريحة للتشريعات الدولية وحتى القوانين الداخلية لدول العالم التي تقوم على المواطنة والمساواة بين مواطنيها بغض النظر عن تقسيمات عرقية أو دينية أو جنسية، وعلى الصعيد الدولي فإن القانون الانتقائي الذي يمنح الجنسية الهندية للاجئين من بعض الدول شريطة ألا يكونوا مسلمين وصمة عار على جبين الإنسانية ويستوجب موقفاً صارماً من الأمم المتحدة والأجهزة المعنية بحقوق الإنسان واللاجئين.
لتكون بذلك الحكومة الهندية شقت صف اللُّحمة والجماعة الإنسانية التي حكمت العالم ووحدته شعوباً وحكومات في مواجهة وباء لا يعرف انتقاء ويصول ويجول بين أجساد البشر، وباء لم يعلن له بعد عن دواء، وأفسحت المجال لمروجي العنصرية والكراهية لاستغلال المحنة العالمية بصورة غير أخلاقية لشرعنة انتهاكاتهم بحق الأقلية المسلمة من الشعب الهندي.
فتلك الحكومة التي مارست العنصرية بحق المسلمين هي نفسها التي انقلبت على الشرعية الدولية بقرارها الأحادي في 5 أغسطس/آب 2019، بضم إقليم جامو وكشمير "ذي أغلبية مسلمة تعتبر الهند قوات احتلال"، الذي يعتبر إقليماً متنازعاً عليها بتعريف القانون الدولي، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 47 الصادر في عام 1948 الذي أعطى الشعب الكشميري الحق في تقرير المصير عبر استفتاء عام حر ونزيه يتم إجراؤه تحت إشراف الأمم المتحدة، وهو ما لم يتم قرار ضمه.
إن ما تقوم به الحكومة الهندية في ظل مخاطر كورونا من إجراءات تجاوزت حد الجرائم التي لا يجب السكوت عنها بحق المسلمين الهنود واللاجئين على أراضيها سواء بحرمانهم من الرعاية الصحية وتمكينهم من العلاج باعتباره حقاً أصيلاً لكل إنسان وكذلك حق اللاجئين في الطعام والدواء المحرومين منه تعسفاً نتيجة فرض حظر التجول في مناطقهم، كما أن ما يحدث في إقليم كشمير، جريمة صريحة وفق الشرعية الدولية، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته ويتخذ موقفاً واضحاً تجاه تلك الممارسات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.