مما لا يقبل الشك ولا المماراة أننا الآن نعيش في أوج الجهل الثقافي والفكري قيل قديماً إن لكل عصر جاهلية أما عصرنا هذا فهو جاهلية كل العصور، وليس المقصود فقط الجهل بمعناه اللغوي أو الاصطلاحي، ولكن الجهل النفسي والخواء الداخلي، وهو من أخطر أنواع الجهل، فهي لا تعالج بالعلم فقط وإنما بالتجربة أيضاً. وبما أن الإنسان كائن اجتماعي يستمد قوته من الآخرين ويأخذ خبرته من حوله ويكتسب سلوكياته من الآثار الخارجة حوله، لذا كان لزاماً علينا محاكاة ذلك الأمر بشكل من الدقة والتفصيل حتى نصل إلى الهدف المنشود.
الفقر المضحك
منذ زمن وقد اعتاد العرب بشكل عام والمصريون بشكل خاص على إنتاج برامج تلفزيونية قائمة على أسس واهية وبشكل هزلي وإنتاج مسلسلات لا تقترب مجرد الاقتراب لأسس الإخراج أو التأليف المهني، ولكن ليست المشكلة في ذلك إنما الأزمة الحقيقية هي كم الأموال والمليارات التي تنفق في هذه الأشياء في بلد تعاني الأغلبية الساحقة فيه من الفقر والمعاناة والعذاب المعيشي والفارق الطبقي الشنيع. فكيف يتم الأمر هكذا؟ هل نحن حمقى؟ والأدهى من ذلك هو تشجيع تلك الأغلبية ومساعدتها في نجاح هذه البرامج في تمثيل صارخ لأبشع أنواع الجهل والغباء على مر التاريخ فهل نحن بذلك أسوياء؟ هل هناك عقل يقتنع بذلك الأمر؟ معاناة وفقر وخنوع وإهمال وفي نفس الوقت التزام تام والتسابق على إنجاح تلك البرامج بما فيها من غلو أو تفريط وبما تدل عليه من ثراء فاحش لطبقة معينة وفقر مدقع لطبقة أخرى.
في مسرحية عدو الشعب للكاتب النرويجي هنريك أوبسن كان له وصف عظيم لعقليات البشر وكيف يمكن للأغلبية أن تمرر رأياً خاطئاً مضحكاً، وقام بتمثيل ذلك الأمر عن طريق أهل القرية والعمدة ودكتور المدينة، وتدور القصة حول قرية مياه الشرب لديهم هي مياه الصرف الصحي، ويعلم الجميع ذلك، ويعاني الطبيب من محاولة إقناع الأغلبية الحمقاء بخطورة شرب تلك المياه، ولكنهم يرفضون ذلك، بل ويتهمونه بالجنون، وأنه عدو الشعب فقط لمخالفته للعرف السائد عندهم حتى ولو كان خطأ، وأن هذا لهو أروع تمثيل لما يحدث حالياً في المجتمع المصري.
قال الله تعالى: "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين"، لم يقل الله سبحانه وتعالى مكر بقومه أو خدع قومه، ولكن قال "فاستخف قومه"، والاستخفاف في اللغة من الفعل استخف، أي استهان أو استهزأ، والمعنى الاصطلاحي في الآية أن قوم فرعون كانوا يعلمون أنه كاذب ومع ذلك يصدقونه، وهو يعلم أنهم يعلمون ذلك، ولكنه استخف بهم، وعلله رب العزة بقوله إنهم كانوا فاسقين.
علي سبيل المثال لا الحصر أحد البرامج التلفزيونية وهو "رامز مجنون رسمي"، فكرة البرنامج هو إخافة الضيف ومحاولة استفزازه، ولكن السؤال ما الفائدة من مشاهدة شخص يسب ويلعن؟ والغريب في الأمر أن الجميع يعلم أن كل شيء متفق عليه ومع ذلك ندعي المفاجأة والاستغراب فهل هنا عبثية أكثر من ذلك؟
ونستون تشرشل، رئيس وزراء المملكة المتحدة في أربعينيات القرن الماضي قام بانقلاب أبيض على رئيس الحكومة البريطانية المنتخب من الشعب تشامبرلين، حيث أجبر المجلس العسكري البريطاني لقيادة الحرب تشامبرلين على الاستقالة وتعيين تشرشل، كما أنه كان قائداً عسكرياً فاشلاً هزمته القوات العثمانية عام 1915 في مضيق الدردنيل في الحرب العالمية الأولى، رغم أنها كانت أقل عدداً وعدة، وسميت بكارثة موقعة جاليبولي، وأودت بحياة 10,000 جندي بريطاني، ورغم كل تلك الإخفاقات والهزائم والإبادات فإن الشعب البريطاني كان يهلل ويمدح ويكثر في الثناء عليه، ومن هذا يمكن القول إن الشعوب لا تتعلم أبداً من أخطائها وتكرر التاريخ دائماً وتكرر الشغف المطلق باللاشيء.
يقول ابن خلدون في مقدمته
"إذا فسد الإنسان في قدرته، ثم أخلاقه ودينه، فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة".
في نهاية الأمر ليس المقصود هنا هو منع الناس من المشاهدة أو الاستمتاع، ولكن التصفيق والتماشي مع الأفكار دون معارضة أو حزن فليس من المنطق أن يعترض الشخص ويبكي ويتحسر علي حزنه ومعاناته وخوفه وفقره الشديد وفي نفس الوقت يشاهد تلك البرامج ذات التكلفة الهائلة. في تلك اللحظة لا يسعنا القول إلا باختيارين، إما أن هذا الشخص غير سوي، وإما أنه يتلذذ بالألم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.