طوال عقود والعالم يتعرض لحملات منظمة من تزييف الوعي بواسطة السينما الأمريكية، حتى أمكن القول إن هوليوود هي أخطر مصنع لأسلحة الدمار الشامل يمتلكه "العم سام"، ويوظفه في سعيه إلى الهيمنة. فكثيرة هي الحروب التي حسمتها أمريكا على شاشات التلفزيون وفي قاعات السينما قبل أن تحسمها في ساحة المعركة.
وكثيرة هي الأدلة على توظيف أمريكا للسينما لتبرير وشرعنة حروبها، والتعبير للرئيس السابق جورج بوش الابن، ولتلميع صورتها وتقديمها كشرطي/ سوبرمان نذر نفسه لحماية العالم وتخليصه من كل الأشرار/ الآخرين، حتى لو كان هذا الآخر هو سكان أمريكا الأصليون (الهنود الحمر).
لكن حبل الكذب قصير كما يقال، والصناعة السينمائية، مهما بلغت إمكانياتها، لا يمكن أن تعوض الواقع أو تمسخه إلى الأبد. فالحقيقة كالشمس يمكن لبعض الغيوم أن تحجبها، لكن لا يعني هذا أنها غير موجودة أو أنها ستبقى مختبئة دائماً. وأحياناً، يمكن لهبوب رياح بسيطة أن تزيح هذه الغيوم كما فعل فيروس كورونا المستجد، الذي لم يكشف فقط الوجه القبيح لأمريكا، بل أظهر أيضاً الصورة الحقيقية لبلدان ظلت هوليوود تشيطنها مثل كوبا.
سيذكر الإيطاليون، الذين تركوا لمواجهة مصيرهم، ومعهم العالم، لمدة طويلة أن كوبا أرسلت فريقاً طبياً لمساعدة إقليم "لومبارديا" على التصدي لوباء كورونا، في الوقت الذي كان فيه "شرطي العالم" يعترض كلص شحنات من اللوازم الطبية كانت موجهة لدول أخرى ويسعى لاحتكار لقاح ضد كورونا يشتغل عليه مختبر ألماني بطريقة مافيوزية.
نعم، كوبا التي عانت لعقود من العقوبات الأمريكية ومن حصار اقتصادي وتعتيم إعلامي بعد نجاح ثورة "كاسترو" بداية الستينيات، تملك واحداً من أحسن أنظمة الرعاية الصحية في العالم، وتتفوق على أمريكا نفسها في بعض المؤشرات الصحية، حيث تضمن الدولة ولوج جميع الكوبيين، على قدم المساواة، إلى الخدمات الطبية وتمنع الخواص من الاستثمار في هذا القطاع، بالإضافة إلى أن توريد الخدمات الطبية يدر عليها حوالي 7 مليارات دولار سنوياً.
كما أنها تولي اهتماماً كبيراً لقطاع التعليم، حيث تنفق سنوياً 7٪ من الناتج الداخلي الخام على هذا القطاع. وهو إجباري ومضمون ومجاني لكل الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات و15 سنة، وتتقدم كوبا كل دول أمريكا اللاتينية في قطاع التعليم ولا تتجاوز فيها نسبة الأمية 0.2٪، معظمهم من كبار السن الذين لم تتح لهم فرصة ولوج المدرسة. كما أنها تمتلك واحدة من أحسن نسب التمدرس في العالم، بمعدل أستاذ لكل 20 تلميذاً فقط ويبلغ عدد الوظائف في قطاع التعليم 400 ألف.
هذا واحد من أهم الدروس التي ينبغي أن نستخلصها كمغاربة من هذه الجائحة. صحيح، أن ميزانية قطاعي التعليم والصحة عرفت زيادة مطردة ومهمة في السنوات الأخيرة، لكن وجب الانتباه إلى أن مشكلة التعليم والصحة لم تكن دائماً مشكلة موارد مالية وبشرية، بل ومشكلة حكامة أيضاً، ويكفي أن أذكر هنا فضيحتي لقاحات إنفلونزا الخنازير والمخطط الاستعجالي لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي اللذين صرفت عليهما مليارات الدراهم دون نتيجة تذكر ودون محاسبة أيضاً.
ينبغي أيضاً الاعتراف أن هناك هوة كبيرة بين القطاعين العام والخاص، الذي لم يعد مجرد شريك كما يحلو للمسؤولين ترديده، بل أضحى منافساً شرساً، وغير شريف في بعض الأحيان، حيث تحولت المستشفيات العمومية إلى مجرد قاعات انتظار كبيرة لأخذ مواعيد مع أطباء يشتغلون في مصحات خاصة بعد انتهاء الدوام، وأضحت المدارس بسبب اختلالاتها البنيوية والمزمنة مجرد مؤسسات لتخريج العاطلين، ما دفع "الطبقة المتوسطة" إلى الهجرة نحو المستشفيات والمدارس الخاصة مع ما يكلفه ذلك من أعباء مالية تضاف إلى الاقتطاعات الضريبية على هذه الخدمات.
من حسنات كورونا أنها أظهرت مساوئ هذا القطاع، الذي يستفيد من امتيازات ضريبية مهمة، ويعتمد بالأساس على أطر الدولة، والذي عوض أن ينخرط في المجهود الوطني للتخفيف من تداعيات هذا الوباء، سواء عبر دعم الصندوق المحدث لمواجهة تداعياته أو بوضع الوسائل اللوجيستية والبشرية التي يتوفر عليها في خدمة السلطات العمومية، بادر إلى تسول الدعم المالي من هذا الصندوق، قبل أن يقدم مساعدات محتشمة ويتخذ إجراءات شكلية تحت ضغط الرأي العام.
وختاماً، ينبغي التأكيد على أن الدولة لم تجد في هذه المحنة غير القطاع العام، خصوصاً قطاعي الصحة والتعليم، ولذلك ينبغي الاستثمار في هذين القطاعين الحيويين والكف عن اعتبارهما مجرد قطاعين اجتماعيين، في الوقت الذي أصبح فيه الاقتصاد مبنياً على المعرفة، ومؤشر الصحة عامل أساسي في الرفع من معدل النمو، ورد الاعتبار لهذين القطاعين يمر لزوماً عبر الاهتمام بأطرهما، حتى لا نسمع مرة أخرى ما يردده نساء ورجال التعليم والأطباء والممرضين في مسيراتهم الاحتجاجية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.