"دكتور جيكل ومستر هايد" هي رواية خيالية للأديب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، تتناول الصراع بين الخير والشر داخل الإنسان، وفكرة أنه ربما يمتلك شخصيتين أو أكثر. نشأ الطبيب جيكل، بطل الرواية، نشأة محترمة ثرية، لكنه كان يشعر دوماً بنزق طائش لا يمكن أن يسمح له بالتحرر، فعاش حياته بشكل مزدوج.
أراد جيكل أن يحرر شخصيته الشريرة، وأن يفصلها عن الأخرى الطيبة، فحضر تركيبة كيميائية وبجرأة واندفاع تناولها، فتحول لكائن دميم مشوه أصغر سناً وأكثر قوة، وبات يشعر باستمتاع وهو ينتقل بين الحالتين، يحظى باحترام الجميع كجيكل الشخصية المتزنة الوقورة، ويسعد بحياته الخاصة كهايد الشخصية الجامحة المجرمة. ظل جيكل متحكماً مسيطراً على عملية التحول، إلى أن تضخمت شخصية هايد بداخله وفقد السيطرة.
صورت الرواية حالة الإعياء الرهيبة التي طالت الطبيب وهو يحاول أن يقاوم ويتغلب على مركب الشر الذي صار يفرض نفسه عليه ويمحو شخصيته الأصلية. اختتم ستيفنسون الرواية بشكل مأساوي، وكان لابد من ذلك لتحقق الرواية الرسالة المرجوة، فقد تآكلت شخصية الدكتور جيكل الطيب لصالح هايد الشرير.
كانت هذه الرواية هي إحدى الروايات التي درستها وحللتها واستمتعت بحبكتها، وعقدتها، وإسقاطاتها على الشخصية الإنسانية، وهي لا تختلف فيما تقدمه من عبرة عن فكرة النفس المطمئنة، والنفس الأمارة بالسوء، والصراع الأبدي الدائر بينهما، ومحاولة الإنسان تغليب الخير على الشر، بالرغم من محاولات الشيطان المستمرة أن يستفزه وأن يجلب عليه بخيله ورجله، والنهاية المحتومة المهلكة إن ترك الإنسان نفسه فريسة لشهواته ونزواته ورغباته.
في ظل ما نعيشه اليوم من انقلابات على المسلمات، والقيم، والأفكار، والمبادئ، خطر ببالي أنه ربما يجب أن أعكس فكرة الرواية أيضاً؛ ففي نسختي للقصة أرى جيكل طبيباً نشأ نشأة معتدلة، يبدو هادئاً، رزيناً، صامتاً، معقداً، مركباً، خبيراً، قاسياً، لئيماً، صدامياً، لا مبالياً، لكن نزقه وطيشه من نوع مختلف، فشخصية هايد المختبئة بداخله هذه المرة طبيعية، بسيطة، بسامة، نقية، حلوة المعشر، لا تلتفت لكثير مما يدور حولها، تركز على عملها، وحياتها الخاصة، وشؤونها، ومشكلاتها، تحب التواصل مع الآخرين بشكل تلقائي؛ طالما حاول جيكل ألا يسمح لطباع تلك الشخصية بالتحرر؛ فمثل تلك الصفات يعتبرها المجتمع انحرافاً عما تعارف عليه من طباع متجمدة. يعيش الدكتور جيكل في حكايتي نفس الحياة المزدوجة، لذا يتجرع تركيبته الكيميائية، ليتنقل هذه المرة بين شخصيته الهادئة الباردة، وبين الأخرى الخفية الطفولية الخفيفة الضاحكة؛ يبقى جيكل متحكماً في ذلك التحول، إلا أنه يفقد السيطرة، فذلك الطفل الصغير الثائر المختبئ بداخله يرفض أن يتبخر، بل إنه يتضخم محاولاً إزاحة تلك القشرة الخارجية الكئيبة المتمثلة في شخصية هذا الطبيب. طغت شخصية هايد في القصة الأصلية على حساب شخصية جيكل، وأفنتها، لكن صراع أبطال قصتي مازال مجهول العواقب.
إن تعقد الحياة الاجتماعية الذي صاحب التطور العلمي والتكنولوجي والحضاري حبس الشخصية الإنسانية داخل إطار صلب، وكأن البشر صاروا قطعاً تتحرك على سير في خط إنتاج مصنع. فإنسان هذا العصر متوتر دائماً، خائف، متأزم، يصعب عليه فهم الآخرين بوضوح، كما يصعب عليه أن يقدم استجابات جريئة لمؤثراتهم، لا يستطيع أن يسأل عن أسباب ما يلاقيه من ردود أفعالهم، لأن تفسيراتهم ستكون غاية في الغموض الذي سيسلمه لحيرة أكبر وأكبر، هو لا يعرف كيف يراه الناس، ولا يستطيع التأقلم مع تعقيداتهم، ولا يتمكن من ألا يبالي، يعاني كل يوم من تسلط آخرين يئنون بدورهم من تسلط آخرين تحولوا بفعل الخبرات الجحيمية المتتالية إلى قوالب مصمتة، لذا وبسبب كل المعادلات غير الموزونة، ولوغاريتمات الحياة المبهمة، يستسلم إنسان اليوم لآلة التغيير، فيتخلى عن طبيعته البسيطة المريحة المرحة، ليتحول إلى كائن مذعور يتخفى في جلد نمر.
في مجتمعات اليوم، لم تعد المسألة أن التلقائية هي أمر مرفوض، بل صارت الأزمة أنها أصبحت فكرة غير مفهومة، فالمجتمع ينظر للشخص البسيط كجسم غريب! يقلب نظره فيه محاولاً أن يستوعبه، فإن لم يستطع فإنه يلفظه. تعود المجتمع على أنماط محددة للتعامل فإذا لم يجد ما يطابقها في الإنسان صنفه كمريض نفسي أو مختل عقلي. صارت المجتمعات الجديدة الجامدة كإنسان آلي ضخم ذي عينين هي كاميرات دقيقة تتفحص ابتسامة الأفراد وتضع لها تقييماً من بين اختيارات محددة (لئيمة، ساذجة، ذكية، مجرمة)، لكن فكرة أن تكون الابتسامة بريئة، فهذا أمر غير مطروح، كما أنها تضع تصوراً لكل احتمالات تفكيرهم فيما عدا أن يكون نابعاً من نقاء سريرة، إن هذه المجتمعات كتطبيقات الحاسوب، لتسمح لك بالدخول، لابد أن تسجل بها حساباً وأن تختار كلمة مرور وأن توافق على شروط خصوصيتها.
يرفض المجتمع فكرة التنوع في النفس البشرية، لقصور في الاستيعاب أو لكسل في الفهم أو لضيق الوقت. إنه لا يستوعب فكرة أن تكون الشخصية الإنسانية خليطاً من الجد، والهزل، والعمق، والسطحية، والثورة والبرود، والتسامح والانتقام؛ إنه يعجز عن إدراك مدى اتساعها لتحمل بين جنباتها كثيراً من التناقضات والاتفاقات والمقاربات. وضع جاردنر نظرية أثبت فيها أن الإنسان لديه ذكاءات متعددة، وربما نجد يوماً من يضع نظرية تثبت أن النفس الإنسانية تتسع لشخصيات متعددة أيضاً دون اضطراب، أو فصام، أو مرض.
يحتاج مستر هايد في قصتي أن يظهر دون كبت، ودون أن يوضع في تصنيفات ومقارنات أو أن يخضع لفحوصات. يحتاج الإنسان العادي أن ينفي صفة التمدن الكاذبة، فيظهر غضبه في غير أذى، ويبدي ارتياحه، ويرسل ابتساماته، ويظهر جهله، ويقدم تساؤلاته، ويبدي دهشته، وسعادته، وحزنه، إن هذه القيود العنيفة المزخرفة بالمدنية تكبل إبداعات القلب والعقل البشري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.