لم أقضِ رمضان في مصر منذ نحو 9 سنوات، هنا أفتقد صوت أذان المغرب وتواشيح النقشبندي، والذهاب إلى صلاة التراويح في مسجد أعرفه ويعرفني، رغم أن المساجد هنا تكون ممتلئة عن آخرها في جميع أدوارها وأحياناً يخرج الناس في الشوارع، أفتقد أيضاً رائحة الطعام الذي يملأ الشوارع قبيل المغرب.. هنا يأتي رمضان هادئاً ويمضي في سكون، كزائر لطيف يذكِّرنا برائحة موطننا حيث ننتمى وأيضاً موطننا الأصلي حين تنتهي رحلتنا في الحياة، هنا رمضان ذو نهار طويل بلا طعام ولا قهوة، وكثير من الحركة والمسؤولية، يعقبه ليل قصير جداً فلا نوم، لا زينة في الشوارع ولا صوت طبلة المسحراتي. نعم أجد المقاهي والمطاعم التركية والعربية تكاد تكون فارغة، وأماكن التسوق في الأحياء التي يقطنها العرب هادئة كما شوارع بلادنا في نهار رمضان.
أما عن أطفالنا فلم يروا أطفالاً غيرهم صائمين، لم يجتمعوا قط مع عائلتهم الكبيرة على مائدة الإفطار.
ليس فقط افتقاد تلك الأجواء الرمضانية، ما يجعل الشهر الكريم مختلفاً، لكن هناك تحديات أخرى، فمثلاً باستثناء هذا العام حيث أعلن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عن تحديد موعد الأول من رمضان وشوال فلكياً مبكراً، قاطعاً تلك الفوضى التي تحدث دائماً على مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات الخاصة بالجاليات العربية، متى يبدأ الشهر؟ وهل سنصوم حسب تحديده فلكياً أم مع رؤية الهلال؟ والذي يؤثر بشكل مباشر جداً على مواعيد طلب إجازات عيد الفطر وتحديد برامج العيد للمسلمين، يعقب تلك المشادات ومحاولة كل طرف إقناع الطرف الآخر خلاف قديم متجدد، وهو هل نصوم اليوم كاملاً من الثالثة والنصف فجراً حتى نحو العاشرة مساء، أم نفطر على توقيت أقرب بلد مسلم، أم على توقيت الوطن؟ وتتوالى الفتاوى والآراء ويكثر الجدل.
تحدٍّ آخر كان عن كيفية تعويد الأطفال الصيام فأقران أبنائي في مصر يصومون اليوم كاملاً، أما مع أبنائي فنحن نجاهد كي يصوموا فقط بعد عودتهم من المدرسة وحتى أذان المغرب نحو خمس ساعات، فاليوم نهاره طويل جداً، إلى جانب الأسئلة الكثيرة عن حكمة الصيام، وكيف سأقول إني صائم لأصدقائي. في العام الماضي كانت هناك كثير من ورش العمل للأمهات لتحضير زينة رمضان للأطفال، لا أعرف حقاً هل زاد عددها أم أن قضائي رمضان في مدينة أوروبية هذا العام غير باريس، كان سبب ملاحظتي، لا أعرف، لكني وجدت الأمهات يتسابقن لوضع صور الزينة على فيسبوك، ومستلزمات رمضان، وتجهيز الفوانيس يدوياً لمن لم يستطع إحضارها من مصر.
رمضان الماضي فاجأت وزيرة العدل الألمانية المسلمين بتأييدها قراراً يقضي بمعاقبة الأهالي الذين يجبرون أبناءهم على الصيام. قبلها بعدة أيام كانت هناك مشكلة طرحتها إحدى الأمهات، وهي أن مديرة مدرسة ابنها البالغ 12 سنة تقريباً، أجبرته على الفطر وأن يأكل أمامها، مما يتعارض كلياً مع حرية العبادة وممارسة الشعائر والحريات الشخصية.
بينما في مدرسة أخرى ألمانية أيضاً تسأل معلمة ابني الأطفال في الفصل من منهم صائم ليقوم بإنهاء واجباته التي تحتاج إلى تركيز، صباحاً قبل أن يصير متعَباً في نهاية اليوم. في مدرسة ابنتي تشرح إحدى المدرّسات الألمانيات لطلابها ما هو شهر رمضان، وكيف يصوم المسلمون، وأن الأطفال والمسنين والمرضى ومن هو على سفر يجوز له الفطر.
باريس 2017
كنت أقضي هذا العام كمتدربة في أحد مستشفيات باريس، وحلَّ علينا شهر رمضان الكريم، كنت أتحايل على أمر الحجاب بشكل ما، لأنه كان ممنوعاً قانوناً في أماكن العمل، عكس العادة فإنه للأسف كان هناك من زملائنا المسلمين من لا يصومون الشهر، ولم يكتفوا بهذا؛ بل كانوا يحاول أحدهم إقناعنا ببعض الفتاوى والحجج وأنه يحل لنا الفطر إذا كنا نعمل، لأن اليوم طويل وحارٌّ، وعندما لم ينجح جاء في أحد الأيام، حين اعتذرت للمشرف بأني لن أتناول الغداء معهم هذا اليوم ولم أقل سبباً، فعقَّب زميلنا بأن "أسماء" صائمة، لم أهتم كثيراً لما قال حينها، غير أن ذلك تسبب في أذى لي بعدها، حيث صار المشرف يُرجع أي سهو أو تأخير إلى الصيام، لا يعرف بعض الناس الذين لم يعيشوا في الغرب، أو عاشوا ولم يختلطوا بالمجتمع في عمل أو دراسة، أن هناك فرقاً في المعاملة من بعض الناس وزملاء العمل وغيرهم عندما تكون مسلماً وعندما تكون مسلماً ممارساً للشعائر (تصلي وتصوم، وترتدي الحجاب مثلاً)، لا مشكلة كبيرة أن تكون مسلماً إذا كنت لا ترتدي ما يميز دينك، أو تصلي أو تصوم أو يعلم أحدهم أنك ذهبت للحج مثلاً.
ماذا يعرف الناس عن رمضان في الغرب؟
باريس 2014
كنت حاملاً في الشهر الثامن، والجو شديد الحرارة في يوليو /تموز، ونهار رمضان طويل جداً، حيث الفجر في الثالثة والنصف فجراً، والمغرب يصل إلى العاشرة مساء في الصيف، توقفني سيدة مسلمة لتقول لي إن الله سيحاسبني، لأني أشرب الماء في نهار رمضان في الشارع، وتنهرني بشدةٍ قائلةً: كيف ترتدين حجاباً وتفطرين رمضان، فالله سيرزق طفلك؟ أبتسم وأشكرها على نصحها وأمضى، فيوقفني شباب يبدو أنهم ما بين الخامسة عشرة والعشرين، ويبدو من هيئتهم أنهم من أصول فرنسية في أيديهم زجاجات المياه، يسألونني هل أنا صائمة وأنا حامل؟ فأخبرهم بأنه "لا" حيث إن لدي رخصة بالفطر، وإن المريض والمسافر والأطفال لديهم رخصة بالفطر وإعادة اليوم لاحقاً. اندهشوا كأنهم كانوا يتأكدون من معلومة لديهم.
هذا العام كنت أبحث عن مقاطع فيديو تشرح للأطفال غير المسلمين ما هو شهر رمضان وجدت كثيراً منها، منها ما هو سلبي وما هو إيجابي، شعرت بالتقصير، لأننا نحن المسلمين في الغرب لم نفعل كل ما هو متاح لنا لنشر تلك المعرفة التي ستعود بالتأكيد بالنفع على أبنائنا وسط زملائهم، وتخفف عنهم كثيراً من الضغط النفسي وشعورهم بأنهم مختلفون.
هذا العام يأتي رمضان في وجود وباء الكورونا، ومع توقف الدراسة، والطقس ما زال معتدلاً، أتمنى أن يستطيع ابني الصيام دون مشقة ودون ضغط نفسي.
على الرغم من ذلك الاختلاف بين رمضان الوطن ورمضان المهجر، فإن رمضان يبقى شهراً ننتظره طول العام، وما أحاول فعله مع أبنائي في تلك السن الصغيرة هو أن يحبوا الشهر وينتظروه العام القادم إن شاء الله. أعاننا الله جميعاً وتقبل صيامنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.