خرجت من العمل قبل الإفطار بما يقارب الساعتين، الطريق من العمل إلى البيت الذي استأجرته مشاركة مع ثلاثة آخرين من الشباب المصريين، كان يستغرق ما بين الساعة والساعة والربع. في الطريق مكثت أفكر فيما يمكن أن أفطر به بعد تسع عشرة ساعة من الصيام، لاسيما وأن الزملاء في السكن كل أفصح عن مكان إفطاره في الليلة السابقة. فمنهم من سيفطر في العمل ومنهم من وجد لنفسه إفطاراً مصنوعاً على يد زوجة أحد أصدقائه، فقرروا أن يعزموه على إفطارهم البيتي. أما أنا فلا العمل سيقدم لي الوجبة الوحيدة في ليل رمضان وليس لي صديق مثل ذلك الذي قررت زوجته أن تمنح أحد العزاب فرصة إفطار بيتي في أول أيام رمضان في الغربة.
وصلت إلى البيت ولم أقرر ماذا أفطر، فلم تكن ساعة كاملة كافية لأخذ هذا القرار الصعب. ورغم الجوع والعطش في يوم طويل في جو حار رطب، يحتاج الجسم فيه لتعويض ما فقده طوال النهار من سوائل وعناصر غذائية، فتحت المبرد العامر بما طاب، لكن انتابني شعور بعدم الرغبة في إجهاد نفسي بعد يوم طويل من العمل في تجهيز وجبة ولو خفيفة للإفطار، وقررت النزول لتناول إفطاري الأول في أحد المطاعم المنتشرة في الحي الذي أسكن فيه.
خرجت إلى الشارع، وقلت لن أتناول إفطاري في واحد من تلك المطاعم التي داومت خلال الفترة الماضية على الإفطار فيها، وقررت أن ابتعد أكثر، أضيع الوقت وأنتقي، فلا مانع أن أتناول وجبة شهية وجديدة في يوم مبارك مثل أول أيام رمضان، للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره وأخرى عند لقاء ربه. لذا قررت أن ألتقي بفرحتي الأولى الآن على الشكل الذي يليق بهذا اليوم. أخذتني قدماي إلى حيث لا أعرف، ومن شارع إلى شارع تمر المطاعم ومشهد روادها المتكدسين يتكرر، ينادي أحدهم تفضل باللغة التركية، وأنا أبتسم ابتسامة الممتن غير الراغب، والوقت يداهمني، وأنا ما زلت أهيم على وجهي. أتذكر تلك الساعة التي كنت أقف فيها مع أصدقائي وجيراني في الحي الذي كنت أسكن فيه في القاهرة، بعد أن اشتريت كيساً من المخللات وكيساً آخر من العرقسوس حيث ينتشر بائعوه في الميادين في هذه الأيام ويختفون بعدها، وكأنهم جزء من طقوس هذا الشهر الجميل، فهم ضيوف خفاف على الشارع، كما الشهر الذي يتواجدون معه.
السمر مع الأصدقاء والجيران والنكات التي لا تنقطع، حتى أحمد ثقيل الظل كان خفيفاً مرحاً مقبولاً، وكأن الشهر يأتي ومعه ما لا يحمله شهر آخر، الروح صافية والقلب محب، محب لكل شيء، ورغم أننا كنا شباباً كباراً لكننا لم نخلع عن أنفسنا روح الصبية في هذه الساعات. فلا ضير أن نحيك المقالب والخدع بيننا أو على المارة الذين نعرفهم، فلا ضير من فرقعة البمب بجوار المارة، أو الادعاء أن أحدنا ضرير ويطلب من المارة أن يعيده للجانب الآخر من الطريق فإذا ما أوقف الطريق جرى المدعي وترك فاعل الخير للعنات أصحاب السيارات وهلم جرا من الألاعيب التي لم تخل منها هذه الساعة التي تسبق توزيع التمور على السيارات وقت أذان المغرب، فيتحول الشياطين الذين يحيكون الخدع في المارة إلى ملائكة يبتغون رضوان ربهم.
مازلت أسير هائماً والذكريات تداعب خيالي، أشتاق تارة ويقرصني الجوع أخرى، فأفيق من نشوة الذكرى لأبحث عن مطعم يأويني، فأعرج على أحدهم فلا يعجبني ما يقدم، وأذهب لآخر فتحدثني نفسي بالأفضل، فأسير نحو ثالث فأجده مملوءاً.. ويشق صمت الشارع صوت المؤذن معلناً ساعة الصفر ليهجم الجالسون في المطاعم على أطباقهم فيعلو صليل الملاعق والشوك في الأطباق على صوت مكبرات الصوت نفسها، وأنا مازلت هائماً في الشوارع لم أقرر، لأعود إلى البيت وأفطر على كوب عصير وقطعة جبن مع بيضتين مخفوقتين في الزبد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.