أزمة كورونا أعادت إلى الواجهه نقاشاً ساخناً مستمراً منذ فترة: هل الحكومات الكبيرة (بيروقراطية وجهاز دولة كبير) أفضل في مواجهة فيروس كورونا أم الحكومات الصغيرة ذات الحجم الصغير؟ وما هي الأدوار التي يجب أن تقوم بها الحكومات في هذه الأزمات؟
النقاش حول هذه النقطة في الغرب، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص أخد صورة مقالات متعددة صدرت خلال الأيام الماضية.
في المقالة الأولى في جريدة نيويوركر، الصحفي إسحاق تشوتينر يحاور المؤرخ البريطاني ريتشارد إيفانس، الذي درس الطاعون في القرن التاسع عشر وتأثيره على مدينة هامبورغ بألمانيا. إيفانس يقول ملاحظات عامة، لكن مهمة عن كيفية تعامل الحكومات مع الأوبئة التي تشبه كورونا، ويصل في النهاية إلى استنتاج أن تعامل الحكومات الحالي في القرن الحادي والعشرين لم يختلف بشكل كبير عما حدث في هامبورغ/ألمانيا القرن التاسع عشر.
من الملاحظات التي يذكرها مثلاً أن الحكومات دائماً ما تكون في خانة رد الفعل، وليست مبادرة للفعل. تلاحظ هذا في هامبورغ القرن التاسع عشر، وفي رد فعل الصين/إنجلترا/الولايات المتحدة… إلخ بالقرن الحادي والعشرين.
يذكر أيضاً ملاحظة لها علاقة مباشرة بموضوع المقال، أنه بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي (ديمقراطي/استبدادي) فالوباء يحتاج تدخلاً كبيراً من الدولة. قد تكون الأنظمة الشمولية أسهل في أن تقوم بهذا الدور (بحكم طبيعتها وتكوينها)، لكن أيضاً الأنظمة الديمقراطية يمكن أن تقوم بهذا الدور بشكل جيد (ما حدث في كوريا الجنوبية مثلاً).
أيضاً، هو يذكر أن الثقافة السياسية الموجودة في كل بلد تُؤثر على طريقة تعامل الحكومة مع الأوبئة. بريطانيا مهد الليبرالية والفردانية سوف تميل لسياسات تعتمد أكثر على دور الأفراد الطوعي والاختياري للبقاء في المنازل من دون فرض إجراءات صارمة وواسعة من الحكومة، في حين أن حكومات القارة الأوروبية مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا (حيث طبيعة النظام السياسي فيها تختلف عن ذلك الموجود في إنجلترا) سوف تميل لأدوار أكبر للدولة، وتدخل أكبر في حياة المواطنين وتصرفاتهم من خلال إجراءات أكثر صرامة وأكثر حدة.
الملاحظة الأهم في تقديري: كيف أن التأثير السلبي الكبير على هامبورغ بسبب هذه الوباء كان السبب في فقدان السياسيين بها لشرعيتهم، كما أنه كان سبباً أيضاً في تغيير الثقافة السياسية السائدة في المدينة لصالح ثقافة تميل لدور أكبر للحكومة، وهذا عكس الثقافة التي كانت سائدة فيها قبل وباء الطاعون، والتي كانت تتميز بالانفتاح بشكل كبير على العالم، وقربها من طراز النموذج البريطاني.
على الجانب الآخر، فإن مايكل تنر في الناشيونال ريفيو -المحسوبة على المحافظين الأمريكان- يقدم حججاً في الاتجاه العكسي أن سبب المشاكل التي نعاني منها حالياً هو تدخل الحكومات التي تفرض إجراءات كثيرة، وتتدخل فيما لا يعنيها، وبسبب وقوف الحكومات ضد عمل آليات السوق بشكل جيد. مثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية وبسبب قيام الحكومة الفيدرالية في العقود الماضية بوضع إجراءات حكومية على المستشفيات الخاصة، والتوسع في عدد الأسرّة وفي المعدات الطبية، فإن الولايات المتحدة حالياً تعاني من نقص في الأماكن المتاحة وفي المستلزمات الطبية.
أيضاً، بسبب الإجراءات التي تمنع شرائح من الكادر الطبي من ممارسة أنشطة طبية خارج مجالاتهم، أو القيام ببعض الفحوصات الطبية خارج تخصصاتهم، وبسبب وضع قيود كثيرة على من يحق له ممارسة النشاط الطبي داخل الولايات المتحدة، وإجراءات أكثر على استقدام أطباء من خارج الولايات المتحدة، فإن أمريكا تعاني من نقص في الكادر الطبي البشري.
يقول تنر إنه بسبب تركيز الحكومة على القيام بأشياء كثيرة، وفي مجالات مختلفة، كانت وقت الأزمة غير قادرة على القيام بالأدوار التي كان يجب عليها أن تقوم بها. ويضيف، لو كانت لدينا حكومة بأدوار محدودة، لكن تتمتع بالكفاءة في أداء هذه الأدوار، فهذا كان سيكون أفضل في تعامل الحكومات مع أزمة كورونا. هذا التوجه إذاً يركز على أهمية أدوار أقل للحكومة، وإجراءات أقل؛ لأن هذا سيؤدي عموماً إلى نتائج أفضل. أما حين تأتي أوقات نحتاج فيها إلى تدخل الدولة مثل أزمة كورونا، فوقتها سيكون أداء الحكومة أفضل لأنها تؤدي أدواراً قليلة، لكن بفاعلية.
لا يتوقف النقاش عند هذا الحد، فيل كيدنر في مقال بصحيفة شيكاغو سن تايمز يحاجج في الاتجاه المعاكس بأن الحكومات الكبيرة جيدة، هي ليست مثالية بطبيعة الحال، لكن في وقت الأزمات مثل كورونا فإننا جميعاً نلجأ إلى الحكومات كي تنقذنا.
هو يذكر أنه طوال السنوات الماضية كانت دعوات السياسيين في الغرب تتصاعد بأن تأخذ الحكومات ضرائب أقل، وأن يقوم القطاع الخاص بالدور الأكبر، لكن المواطنين الآن وفي ظل أزمة كورونا تتجه أنظارهم إلى الحكومات لكي تنقذهم، فكيف يمكن للحكومات أن تنقذهم من دون أن تكون لديها أموال كافية حصلت عليها من خلال الضرائب؟
الأمر الآخر هو المؤسسات التي يمكن أن تنقذ المواطنين من هذه الأزمة، والتي تعمل على تطوير اللقاحات، وفي مجالات البحث العلمي والأكاديمي، أو المؤسسات التي تقدم الخدمات العامة مثل الخدمات الصحية للمواطنين، هذه المؤسسات لن تعمل بشكل جيد وفعال من دون دعم الحكومة.
وكما نرى، فهنا وجهة النظر مختلفة، نحن في حاجة إلى الحكومات الكبيرة في كل الأوقات، ولكننا في حاجة أشد إليها في وقت الأزمة. فكلاهما اتفق على أهمية الحكومة أثناء الأزمات مثل كورونا، رغم اختلافهما حول طبيعة دور الحكومة في الظروف العادية.
لكن هذا النقاش سيأخذ منحى جديداً بمقالة برت ستيفنس في نيويورك تايمز، التي يقول فيها إن الحل الوحيد من أجل أن ندير أزمة كورونا بشكل جيد هو أن نُخرِج الحكومة من إدارة الأزمة، لا أن تساهم في حلها.
ففي وقت ينتشر فيه الفقر والبطالة والأمراض لا يجب أن ننتظر من الحكومة أن تختار لنا من الذي يستحق المساعدة، ولا من الذي يجب أن نعالجه أولاً. الناس تعرف ذلك جيداً، اتركوا الناس يتحركون بحرية، وارفعوا آلاف الإجراءات والتوقيعات المطلوبة من أجل كل خطوة، وسوف ترون كيف ستكون استجابة الناس.
اتركوا للأفراد حرية الحركة، أعطوهم المسؤولية كاملة، امنحوهم القدرة على المبادرة وستكون النتائج أفضل. فكلما كانت الحكومة صغيرة في الحجم كانت كفاءتها أفضل. وهذا ما أثبتته أزمة كورونا حسب تقديره.
هذا المقال أدخل النقاش زاوية جديدة، فهو لا يدافع عن دور للحكومة أثناء الأزمات، حتى لو اختلفنا في حجم هذا الدور أثناء الظروف الطبيعة، هو على العكس، يرى أن دور الحكومة ينبغي أن يكون أقل في العموم، وأكثر قلة أثناء الأزمات، من خلال تخفيف الإجراءات والقيود التي فرضتها الحكومة في السابق.
المقال أثار عاصفة من التعليقات، من ضمنها تعليقات على تويتر من أستاذ السياسات العامة في جامعة جورح تاون، دونالد موينيهان، الذي رد قائلاً إن سوء إدارة الأزمة الحالي يرجع بالأساس لانتشار هذه الأفكار التي ذكرها ستيفنس خلال السنوات القليلة الماضية، أن سوء إدارة المؤسسات الحكومية يرجع بالأساس لأن القيادت السياسية (دونالد ترامب وأمثاله) يدققون في اختيار القيادات العليا بشكل كبير، أما القيادات الوسطى والتنفيذية فإنها لا تحظى بنفس القدر من الاهتمام؛ لذلك يكون أداؤها سيئاً.
وأضاف أن الأجهزة البيروقراطية للدولة يمكن أن تساعد في إدارة الدولة إذا كانت هناك قيادة جيدة تدير الدولة، أما في حال غابت القيادة فإنه لا يمكن للأجهزة البيروقراطية أن تحل محل القيادة السياسية. بمعنى آخر، يمكن للأجهزة البيروقراطية أن تقدم حلولاً لإدارة الأزمة، لكن هذه الحلول ستكون مفيدة في حال كانت القيادة السياسية راغبة في الاستماع لهذه الاقتراحات.
دونالد أضاف أن حتى سياسات الشراكة بين القطاع العام والخاص التي انتهجتها الحكومة في الأزمة الحالية من أجل توفير أجهزة التنفس الصناعي لم تنجح في مواجهه الأزمة. أما الأغرب من وجهة نظره فهو أن الأشخاص الذين لطالما دافعوا عن تقليل "قدرات الدولة" هم الذين أوصلونا إلى هذه النقطة الحرجة في إدارة الأزمة، بسبب ضعف هذه القدرات حالياً، لكنهم مع ذلك مازالوا مستمرين في الدفاع عن دور أقل للدولة لصالح القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع.
يبدو أن النقاش هناك لن ينتهي قريباً، فكما نلاحظ فإن النقاش في حقيقته ليس حول إدارة أزمة كورونا، لكن عن طبيعة تصوراتنا للحكومة والأدوار التي يمكن أن تقوم بها. في هذا النقاش تبرز اتجاهات رئيسية مختلفة، بل في بعض الأحيان متعارضة.
اتجاه يرى أن دور الحكومة لا ينبغي أن يكون كبيراً ولا أن تعمل في مجالات متعددة، بل على العكس من الأفضل أن تكون الحكومة صغيرة وأدوارها محدودة، لكن هذه الأدوار يمكن أن تتوسع خلال أوقات الأزمات أو في الظروف الخاصة. في هذا الاتجاه كلما كانت الإجرءات والقوانين والشروط المنظمة قليلة كان ذلك أفضل. كما أن هذا الاتجاه يجعل لآليات السوق أهمية خاصة في إدارة الدولة، وليس سياسات الحكومة. وعموماً، فالحكومة لا يتم استدعاؤها إلا في الظروف الاستثنائية، وعندما تفشل الأسواق في تحقيق ما يريده المواطنون.
هناك اتجاه آخر يرى أن أدوار الحكومة على الدوام مهمة، وأن أهمية هذه الأدوار تزيد وقت الأزمات وفي الأوقات الخاصة كالحروب مثلاً، قد لا يكون تدخل الحكومة في الإدارة العامة أو في الاقتصاد مثالياً، لكنه أفضل من ألا تكون الحكومات بلا قدرات مالية أو بشرية تؤهلها للقيام بأدوارها وقت الأزمات. وهذا الاتجاه يرى أن الحكومة مهمة في كل الأوقات، وأنها ينبغي أن تعمل على تطوير قدراتها طوال الوقت، وبالتأكيد فإن دورها يكون أكثر أهمية وقت الأزمات.
اتجاه ثالث لا يثق في الحكومة ولا في سياساتها ولا في توجهاتها. ويثق فقط في قدرة المجتمع على إدارة نفسه طوال الوقت. وحتى في أوقات الأزمات فإن أفضل من يدير الأزمة هم أفراد المجتمع أنفسهم، وليست الحكومة وسياساتها التي لن تكون بكفاءة المجتمع نفسه.
لذلك فإننا ينبغي أن نعطي مساحات أكبر للمجتمع طوال الوقت في إدارة نفسه بعيداً عن الحكومات، وينبغي أن تزيد هذه المساحات أثناء الأزمات.
تستدعي هذه النقاشات معها الأدوار التي يجب أن تقوم بها البيروقراطية الحكومية، وهل يمكن أن تحل محل السياسيين أم لا. فالبيروقراطية تعتبر هي الذراع التنفيذية الأهم للحكومة، فهل يمكن أن يأتي الوقت الذي نستغني فيه عن السياسيين لصالح الأجهزة البيروقراطية التي تعمل على خدمة المواطنين من دون اعتبارات سياسية؟ تتعرض البيروقراطية لحملات منتظمة من التشوية سواء من المواطنين الغاضبين منها أو من السياسين المحبطين من أدائها أو غير الراضين عن وجودها بالأصل. لذا يبدو أن مصير البيروقراطية مرتبط بمصير الحكومات في أغلب الأوقات.
لو نقلنا هذا النقاش إلى الوطن العربي فهل يا ترى ستختلف الآراء أيضاً حول أدوار الحكومة، أم سوف تتفق؟ هل مازال هناك من يراهن على الحكومات للقيام بأدوار إيجابية أثناء هذه الأزمات حتى لو كنا مختلفين معها، أم أن الإحباط من أدائها (والذي كان من أسباب الانتفاضات العربية) أدى إلى يأس الناس من الحكومات والبحث عن بدائل أخرى بعيدة عنها. هذه أسئلة تبحث عن إجابات في الوطن العربي لتعيد طرح السؤال الرئيسي مجدداً: ما هو الدور الذي ينبغي أن تقوم به الحكومة عند إدارة الدولة؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.