كان الدافع وراء ظهور علم الاجتماع هو ما أطّره الإنسان على صعيد علوم الطبيعة والاستحواذ عليها، والرغبة في استطلاع ما سيحدث في المستقبل. كما طالت الرغبةُ الوصولَ المطلق إلى مجالي المجتمع والسلطة التي يعتقد أنها اكتملت وفق الطبيعة.
إذا كان التحكم بسلوكيات المخلوقات غير البشرية أو بسلوكيات حديثي الولادة عبر التوقعات أمراً ممكناً، فلماذا يتم الاكتفاء بتحديد سلوكيات المجتمعات دون تحديد القواعد التي يخضعون لها؟
لقد تم طرح هذا السؤال في السابق تحت مظلة العلوم التاريخية، ومن يطرحه كانوا في المجمل من الملوك والأمراء والسلاطين. لقد كان ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، يبحث عن إجابة لسؤال: ما ماهية عمر الدول والمجتمعات عبر التاريخ؟ وما هي الإجراءات التي يمكنها إطالة هذا العمر؟ وهو السؤال الذي كان يطرحه السلاطين على مستشاريهم، من قبيل الرغبة في إطالة عمر دولهم.
لقد حاول ابن خلدون جمع الأسس التاريخية-الاجتماعية التي يرجع لها تاريخ الدول، من خلال ضرب أمثلة على دول غابرة وحاضرة في عصره، حاول سبرها حينما كان في أراضي شمال إفريقيا. على الرغم من كونه قد جمع ذلك لإشباع رغبة السلاطين ذاتهم، فإنه أراد من ذلك عبرة أيضاً لهم. حتى أن الاسم الأصلي لكتابه هو "المقدمة لكتاب العبر".
هذه المنظومة الفكرية التي صاغها ابن خلدون والتي تم اعتبارها أولى ممارسات علم الاجتماع المعاصر، أظهرت أن التاريخ والمجتمع مجالان لأخذ العبرة أكثر من كونهما مطمحاً للسيطرة، لكن مهما تم أخذ العبرة منهما إلا أنه لا مفر من بعض القواعد الاجتماعية، حيث إن المجتمعات والدول تتبع لقواعد شبيه بالقواعد البيولوجية التي يخضع لها الإنسان، تولد وفق تلك القواعد، وتعيش كما تموت وفقها أيضاً، العيش السليم والغذاء الصحيح والسلامة من الحوادث والكوارث؛ كلها تزيد من العُمر لكنها لا تمنح البقاء الأبدي طبعاً.
شتّان ما بين مجرد القراءة لاستخلاص العبر من الحقائق الاجتماعية والتاريخية، وبين مطالعتها كبحث ودراسة، يمكن إدراك الفرق بينهم بسهولة كبيرة. إن علم الاجتماع الحديث يحاول من خلال النظر إلى الإنسان والمجتمعات والأحداث كمادة، ومطالعة النظم الناشئة عن الفرق ما بين سلوكياتها؛ الوصول إلى "القانون الاجتماعي" الذي يمنحه المعلومة حول السيطرة على المجتمعات.
أوهام الإنسان الحديث
ما نعيشه اليوم من أحداث يعتبر إلى حد بعيد انتظاماً لطبيعة ما عاشه الإنسان على مر التاريخ. إلا أن جيلنا قد نسي تلك الحقيقة تقريباً مع معايشته لبعض الحوادث. ربما الغطرسة التي اكتسبناها من المستوى العالي للتطور التكنولوجي الذي وصلته البشرية في زماننا، أنستنا هذه الحقيقة، وجعلتنا ننسى إمكانية حدوث وباء باعتباره انتظاماً تاريخيّاً.
هذه التطورات التكنولوجية التي جعلتنا ننسى تلك الحقيقة، جعلتنا أكثر ثقة في أن هذا العالم قد تغير تماماً. لن يصيبنا أيُّ شيء، ما هو ذاك الذي يُسمى فيروس؟ ألم يكتشف الإنسان علاجات لأمراض عديدة مثل السل، والملاريا والكوليرا؟ أي نوع إذن ذاك المرض الذي ستعجز البشرية عن إيجاد دواء له، لا سيما مع تطورها التكنولوجي والعلمي؟
لو تم أخذ العبرة من التاريخ بشكل متقن، أو قرأناه لأخذ العبرة، لوجدنا أن ثقة الإنسان بعلمه وتكنولوجيته ليس بالشيء الجديد. إن البشر على مدى التاريخ ينظرون للحضارات التي أسسوها على اعتبار أنها لا تنتهي ولا تهتز، وأنها دائمة أبدية. السلطة تجعلنا نفكر بهذا الشكل، والقوة الإنسانوية تجعل الجميع يفكرون بذلك باسم البشرية كلها، ويبعدونها عن هدفها الحقيقي في هذه الحياة.
إن أهم ما حدده علم الاجتماع الذي ظهر مع الرغبة البشرية في السيطرة على المجال الاجتماعي على نمط السيطرة على مجال الطبيعة؛ هو أن السيطرة التي يعتقد الإنسان أنه يحرزها على الطبيعة ما هي إلا وهم أيديولوجي. إن الإنسان من خلال نظرياته التي أنشأها والمفاهيم والتسميات التي نحتها، بات شيئاً فشيئاً يسير نحو إنشاء عالم لا يرى فيه سوى نفسه. ومع الوقت يتحول هذا العالم إلى زنزانة يصعب عليه الخروج منها. إنها إحدى الزنزانات الأربع التي تحدث عنها علي شريعتي.
ومقابل التطورات التكنولوجية التي نعيشها، والاعتقاد بأن كل شيء تحت السيطرة من خلالها؛ يظهر السلوك البشري الذي يعمل وفق منطق صعب ومتناقض. ولو أقحمنا منطق الرياضيات في القضية، فإن جميع احتماليات السلوك البشري لا تُستَهلك مسبقاً. إلى جانب الأمثلة التي سردناها في المقال السابق، دعونا نستعرض أيضاً مثال "مارغريت م. بولوما":
"إن دولتين ليستا على مستوى عالٍ من الصداقة؛ ينفقان ببذخ على الميزانية العسكرية. وكل دولة منهما تعمل على إنشاء جيش أقوى، والاستفادة من الميزة العسكرية أمام خصمها، وكلا الدولتين في النهاية تنفق الأموال حسب هذه النظرية. وفي النهاية تصبح كلتاهما على مستوى واحد من القوة، لكن أكثر فقراً".
لقد اتضح اليوم أن الدول التي تقوم بإنتاج تكنولوجيات أكثر الأسلحة فتكاً وزهقاً من أجل قتال الآخرين؛ ليس لديها أي فكرة أو نية حول توفير العيش الكريم لمواطنيها.
الولايات المتحدة مثلاً اليوم تريد أموال العالم من أجل الخدمات الصحية الأساسية، بينما أقارب الأموات يتخلون عن كل ما يملكون من أجل دفن أمواتهم. هذه هي صورة الإنسان الذي قد قطع طريقه نحو الفضاء من جهة، ومن جهة أخرى تراه يرمي بجميع معاني الحياة.
لو أننا نطالع التاريخ لأجل العبرة، ألن نجد الموقف ذاته تماماً في أمثلة الفراعين والملوك؟َ!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.