في أوقات الأزمات والحروب والاضطرابات أكثر من يتأثر ويناله النصيب الأكبر من التوتر والقلق على لقمة العيش ومصير الغد هو هذا الموظف الصغير الذي لا يملك من أمره شيئاً إلا انتظار الأيام الأخيرة من كل شهر حتى يحصل على راتبه، ولا يضاهيه قلقاً إلا ذلك العامل المسكين الذي يعمل بالأجرة اليومية، التي ربما يحرمه منها فيروس كورونا. في مثل هذه الأيام تظهر القيمة الحقيقية لمفهوم الأمان الوظيفي ورعاية كل مؤسسة ورب عمل لحياة ومصالح العاملين لديه، وهذا ما أفهمه وتعمل بل تلتزم به أي مؤسسة محترمة.
فارق كبير بين مَن شعاره "صناع الثقة" ومن أصبحت صنعة الندالة هي رأس ماله في هذه الأيام، الأول اعتبر أن 35 ألف عامل وموظف هم قوام العاملين في شركاته، أسرة واحدة مرَّ عليها كثير من المِحن وحوَّلها الله بفضله وتماسكهم معاً إلى مِنح كبيرة. أما الثاني فقد اعتبر أن بقاء العمال في منازلهم دون النزول إلى العمل خسارة كبيرة لملياراته وثروته التي يجب ألا تتأثر في ظرف كهذا. صُناع الثقة طمأنوا عمالهم، مؤكدين أن الشركة لن تتخلى عنهم ولن تقصّر في إعطائهم حقوقهم، وأن الإدارة تفكر في صرف الرواتب والمنح مبكراً، ليجد العمال دخلاً آخر يُعينهم على هذه الفترة الصعبة. أما من صنعته الندالة فأخذ يكتب ويصرخ ويولول على حسابه الرسمي على "تويتر" بأن الخسارة كبيرة، وأن الخوف مبالَغ فيه، ثم اتخذ قراراً بتخفيض رواتب جميع العاملين لديه بمقدار خمسين بالمئة.
الأيام الماضية كشفت لنا المسافة الأخلاقية الكبيرة بين الحاج محمود العربي وأولاده صُناع الثقة في مجموعة شركات العربي من جهة، ورجل الأعمال المصري الملياردير نجيب ساويرس ورجل الأعمال الآخر حسين صبّور من جهة أخرى. منذ بداية أزمة وباء كورونا والتقارير تشير إلى تبرعات ومساعدات قدَّمتها مجموعة العربي إلى عدد من المستشفيات والأسر المتضررة، واستعدادها التام للوقوف إلى جانب الدولة في مواجهة هذا الوباء. على النقيض تماماً، فتح نجيب ساويرس حرباً على جبهات مختلفة لإثبات وجهة نظره التي تقول إن البقاء في المنزل لن يمنع كورونا وانتشاره، نَجيب الذي أحرجه حساب السويد بالعربي عندما ادَّعى أن السويد لم تتخذ إجراءات للحظر ومنع النزول كما اتخذتها مصر، استمر في محاولاته البائسة والدنيئة لضياع حق عماله والتي كلَّلها بخطورة تخفيض الرواتب وتهديد المعترضين بالفصل من أعمالهم، ثم وصلنا إلى تصريحات صبّور بأنه لا مانع لديه من أن يموت الناس ولكن لا يتعرض للإفلاس!
الصورة بالنسبة لي واضحة تماماً، ولم أتعجب من ساويرس وما يفعله؛ ساويرس لم يكن يوماً نصيراً للغلابة أو مهتماً بحقوق العمال حتى من يعملون لديه، ساويرس صاحب أكبر قضية تهرُّب ضريبي في العقدين الأخيرين، مَن استحوذ على شركات الاتصالات في صفقات مشبوهة شهدت ساحات البرلمان المصري في عهد مبارك صولات وجولات بخصوص شبهات فسادها، نجيب الذي يُنفق ملايينه على رعاية مهرجان الجونة السينمائي، ليصنع تحالفات سينمائية كما صنع تحالفات إعلامية وسياسية قبلها، لن يصل أبداً إلى ما عاشه وآمن به الحاج محمود العربي وما ربى عليه أبناءه، العربي الذي أفطر في مائدة الرحمن الخاصة به أمام مصانع توشيبا العربي في بنها ملايين المصريين من غلابة وغير غلابة. الرجل الذي عمِل بالموسكي في تجارة الأدوات المدرسية، ثم تحوَّل إلى الأدوات والأجهزة الكهربائية لم ينسَ يوماً أنه بدأ طريقه بأربعة قروش وبسطة أمام منزل والده يبيع فيها بعض لعب الأطفال في العيد، الحاج محمود الذي قال يوماً ما: "أنا لا أقول أبداً إنهم يعملون لديَّ، وإنما أقول إنهم يعملون معي وأنا أعمل معهم".
هذا المقال ليس دعاية لمجموعة العربي التي لا تحتاج دعاية بالأساس، فالثقة التي صنعوها لدى قطاع واسع من المصريين لم تأتِ عبر أغانٍ وكليبات وإعلانات موَّلها نجيب ساويرس لشركته "موبينيل" في شهر رمضان عبر السنوات الماضية، قبل أن تتحول إلى شركة أورانج. العربي لم ينتج كليباً يقول فيه للمصريين "إننا سنكون دايماً مع بعض"، وإن "صاحبي اللي كتفه في كتفي هيخليني مطمّن"، كما كان يقول نجيب في إعلاناته، ثم تبين أن ساويرس في وقت الكورونا لا يعرف صاحباً أو حبيباً إلا ملياراته التي لا يريدها أن تنقص وليذهب العمال إلى الجحيم إن أرادوا.
إن كان لنا من درس علَّمتنا إياه محنة كورونا، فهو أن صُناع الثقة يختلفون عمن صنعته الندالة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.