كنتُ في صغري أسأل أبي عن هؤلاء الذين "مبيركعوهاش" لكنهم يأتون هرولةً إلى الجمعة، الذين يتزينون قبل الصلاة، ويصلون إلى المساجد قبلنا، ويخرجون منها بعدنا، ويقفون بعد الخطبة والصلاة والتسليم والأذكار، يتصافحون أمام المسجد، يتعانقون، يقولون: "جمعة مباركة" و"تقبل الله".
ذلك الرجل الذي كان يقف على الـ"دي جي" في سهرةٍ صاخبة بالشارع ليلة أمس، اليوم يجلس ساكناً، ساكتاً، هادئاً، في حضرة صوت الخطيب وحده، يتلو من كتاب الله ويخطب من هدي رسول الله. هذا الجار الذي لم يضحك في حياته مرة، أراه متبسماً حين يحكي الإمام موقفاً من حياة النبي. ذلك الرجل الذي كلما رأيته كان ساخطاً، مبهم المشاعر، واجم الوجه، مسودّ الملامح، الآن أراه يتمتم بالرضا، وينظر بعينين ساكنتين، إلى قبة الجامع من الداخل.
كل هؤلاء، نحن جميعاً، قوي الإيمان منا وضعيفه، الذين يذهبون إلى المسجد خمساً وثلاثين مرةً في الأسبوع، والذين يذهبون إليه مرةً واحدة، الذين يشعرون بالهدوء خمس مراتٍ في اليوم، والذين "يتعفرتون" كل يومٍ حتى تأتي الثانية عشرة ظهراً من اليوم السابع فيهدؤون، اكتشفنا عطلاً ما بداخلنا، شيئاً عصيّاً على التفسير، لم نكن نعرف أننا معلقون بالمساجد إلى هذا الحد، ليس بالصلاة وحدها، وإنما بالمساجد نفسها كذلك، بالطقوس، والمكان الذي يحتوي تلك الطقوس، بالأذان وبالجدران، بالإمام وبوجوه المصلين، بتكبيرة الإحرام التي يجهر بها الإمام وحده، وبـ"آمين" التي نصدح بها جماعياً، الجميع تفاجأ في هذه الأيام الشديدة، كلنا شعرنا بشيءٍ ما ينقصنا، كان رغم وجوده قبل ذلك لا يصلنا أي شعورٌ تجاهه بالنقص، تفاجأنا بشيء ما في قلوبنا يهتز، شيء يرتجف، كان يهدئه مرورٌ على مسجدٍ في الطريق، أو ركعتان في مصلى صغير، أو سماع التواشيح قبل الأذان، أو "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين. عباد الله…".
الآن نشعر سيدي، الآن ننظر، الآن نتحسر وننتظر، نتخيل زوال الكرب ونرجوه، تطير قلوبنا إلى الغد الذي طال اليوم قبله، نتعجل المستقبل، ونتسلل بدعائنا إلى علم الغيب، ونسأل الله.. أتفرجها غداً أم بعد غد؟ ونتخيل الجمعة الأولى بعد كورونا.. ونتخيل.. ونتخيل.
في الجمعة الأولى بعد "كورونا"، لن تحتاج الأمهات إلى إيقاظ الأولاد في ساعتين ليلحقوا بالصلاة قبل فواتها، لن يتكاسل الصغار ولا الكبار في الذهاب إلى المساجد، لن نتزاحم على الحمام بينما الإمام يستعد للدعاء، لن ننتظر حتى الدقيقة الأخيرة قبل الأذان لنتحرك إلى الجوامع، لن ننتظر الأذان نفسه حتى، سنهرول جماعات جماعات، ولن ينام الكثيرون تلك الليلة، لأنهم سيعرفون لأول مرة كيف أن "الجمعة" عيد المسلمين.
ستكوي النساء الجلابيب البيضاء دون تمعض، سيعرض عليهم الرجال لأول مرةٍ أن يكووها بأنفسهم، لكنهن لن يقبلن، يردن من أجر الجمعة مثل أزواجهن، يستقبلنها لأول مرةٍ استقبالاً يليق بها، غير الإفطار صباحاً، وطهو السمك للغداء، سيتعجلن أهل البيت في الخروج بسرعة من البيت، ستعتريهن رغبةٌ جامحةٌ في تنظيف النوافذ والستائر والسجاجيد، تعودن فعل هذا في الأعياد، واليوم عيد اليوم عيد.
سينام الأولادُ يحضنون ملابس اليوم التالي، سيستيقظون مبكراً أكثر من اللازم، يسألون عن الساعات المتبقية حتى الصلاة، سيجتمعون على سرير الأم والأب من الثامنة صباحاً، يوقظون كل البشر، سيخرج الأشقياء منهم كأنهم تحولوا إلى هداة مهديين، صحابة يستقبلون النبي، تطوف كل مجموعةٍ منهم في شارعهم، يكبرون، يهللون، ويغنون "صلى الله على محمد.. صلى الله عليه وسلم".
المساجد لن تبدأ التواشيح ولا القرآن قبل الأذان بساعة، هي الأخرى ستبدو متعجلة أكثر من اللازم، ستبدأ التواشيح في العاشرة بينما الناس يفطرون ويضحكون، ستصدح التكبيرات في مكبرات الصوت، سيصلى على النبي بصوت إذاعة القرآن الكريم، سينادي خادم المسجد: "شدوا الرحال إلى صلاتكم" وسيبكي، بكاءً أشد من بكائه الأول حين قال "صلوا في رحالكم".
ستكون مكبرات الصوت في الخطبة عاجزة عن إيصال صوت الخطيب إلى آخرِ مستمع، ستعلق إدارة المسجد مكبرات صوتٍ إضافية، سيفرح الأطفال ويضحكون ويضجون بالساحات، سيعرفون مبكراً جداً، معاني مثل السلب بعد العطاء، ثم العطاء بعد الحرمان.
سيصعد الأئمة المنابر، بعضهم، لا بل الكثير منهم، سيبكي قبل أن يبلغ الدرجة الأخيرة، ستكون الخطبة الموحدة عن فضل الله في إزاحة البلاء والوباء، في فتح مساجده بعد إغلاقها، في احتشاد الناس بعد تفرقهم، في صلاة الجماعة بعد صلاة الفرد، وسينظر الخطيب إلى ساعته خشية أن يطيل، لكن الناس سترجوه بعيونها أن يطيل أكثر، أن يسقيهم الشهد من كلام الله، سيطيل ولن يملوا، حتى يصل إلى الدعاء، ويبكي ويبكون، وتعود "آمين" تصل البيوت من المساجد، وتصل أسماع النساء من حناجر الرجال، ويلصق الرجال أرجلهم بأرجلهم، وتتدانى الصفوف ويتكاتف الضيوف، والله خير من يكرم ضيفه.
بعد الصلاة سيتصافح الجميع أشد حرارةً من أي وقت مضى، سيتعانق الناس، سيحضن بعضهم بعضاً دون سابق معرفة، سيذبح أحد الأثرياء عجلاً كان قد نذره لزوال الوباء، سيدعو المصلين لمائدته بعد الجمعة، ويأكل الناس ويشبع المحتاجون بعد طول عناء وحاجة.
النبي، في السماء، لا أعرف كيف سيكون، بمَ سيشعر حين تأتيه دفعات الصلوات الجماعية عليه بعد انقطاعها، هو الآخر ابتلي معنا حين ابتلينا، هو الآخر افتقد "صلوا على رسول الله" التي يقولها الإمام كجملة اعتراضية في منتصف خطبته، فيرد عليه الآلاف متحمسين: "عليه أفضل الصلاة والسلام".
بالتأكيد لن تكون الصورة ورديةً ولا حالمةً إلى الأبد، ربما سيعود بعض الناس عاديين بعد موجة التأثر، بعد أول جمعتين، بعد أول شهر، لكن عدداً من الناس ستظل قلوبهم معلقةً بالمساجد، ستظل الجمعة عيداً لهم كل سبعة أيام، سينشغل غيرهم حتى يعود فيفيقهم وباءٌ آخر، لكن هؤلاء الذين أفاقوا من المرة الأولى سيلزمون المحاريب إلى الأبد.
في الجمعة الأولى بعد كورونا.. في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.. في الجامع الأزهر والحسين.. في القيروان والأموي، في شتى بقاع الأرض وكل المساجد والجوامع والزوايا والمصليات والمراكز.. سيقول المصلون "آمين" بعد فاتحة الإمام في صلاة الجمعة، ستكون أعلى "آمين" على وجه الأرض، حتى تصل الرحمن في عرشه، ورسول الله في قبره، والأنبياء في الفردوس الأعلى من الجنة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.