مَن منَّا لم تقف أمام مرآتها وهي صغيرة وأمسكت بفرشاة الشعر أو جهاز التحكم بالتلفزيون، وراقبت نفسها وهي تغني أو تقلد مذيعات الأخبار؟
كم فتاة منذ صغرها حلمت بأن تصبح مشهورة ومهمة، وهذه الأحلام كنا أكثر حماساً لها وقت الامتحانات والمذاكرة؟
بصراحة: أنا كنت واحدة من هؤلاء الفتيات اللائي حلمن وتخيلن أنفسهن مذيعات على الشاشة.
الشهرة والملابس الأنيقة والمكياج من أكثر الأشياء التي تشغل الفتيات، والمعروف أن كل هذه التفاصيل تتواجد في مهنة المذيعة، لكن لكل شيء في هذه الدنيا وجه آخر للأسف!
لكن قبل أن نتحدث عن الوجه الآخر وصعوبات ومشاكل مهنة المذيعة التلفزيونية، سأحكي لكم سريعاً قصتي مع مهنة البحث عن المتاعب.
كنت أعيشُ في مصر بمدينة تبعد عن العاصمة ساعتين ونصف الساعة تقريباً، وكما يعرف الجميع أن أغلب فرص العمل في مجال الصحافة والإعلام، وحتى الدراسة في هذا المجال كانت بالعاصمة، وللأسف كنت وقتها لا أعرف أي شخص أو صديق يعمل بهذه المهنة ليساعدني بها، لكن فكرة الاستسلام للأمر الواقع وترك حلمي لم تكن من الخيارات التي أفكر بها.
في هذا الوقت اشتركت في أحد الأعمال التطوعية، وبالصدفة البحتة عرفت أن صاحب المؤسسة يود إنشاء مجلة إلكترونية.
فأمسكت بهذه الفرصة بكل ما أملك، وبعد جهد وبحث طويل توصلت إلى رقم مدير المؤسسة، واستمررت بالاتصال به أكثر من مرة، وفي كل وقت، حتى أجاب اتصالي، وقلت له مباشرة إنني سمعت عن فكرتك، وصحيح أنني لا أملك خبرة كافية بعد لكن لدي حماس كبير للعمل معك في هذا المشروع، لن أقبل أي مجاملات أو محاولات لإبعادي عن هذا المشروع، وأخبرني لطفاً متى يمكنني تسلم العمل، كان الرجل في حالة صدمة، واستمر صمته برهة من الزمن، ثم قال لي: بالتأكيد ستعملين معنا، وشجاعتك هذه كافية جداً، وقد كان والحمد لله.
كانت هذه أولى خطواتي الصغيرة في هذا المجال الكبير الواسع، صحيح أن الأمر كان صعباً جداً في البداية لعدم قدرتي وقتها على الحصول على مصادر أو خيوط توصلني بآخرين، لكن هناك شيء أؤمن به كثيراً وتعلمته في حياتي، أنك إن أردت شيئاً ما فثبّت نظرك وتفكيرك عليه، وستجد كل الظروف تتهيأ لك لتصل إلى ما أردته، ولكن بشرط السعي والاجتهاد والمثابرة.
بدأت بالفعل العمل، وكنت وقتها أسافر 3 أيام بالأسبوع لبيتي وأرجع في نفس اليوم، لأجل المقابلات والاجتماعات. وكل هذا بجانب دراستي بالكلية، ومع مرور الوقت بدأ عملي يزيد، وأجريت حوارات عديدة مع سياسين وإعلاميين وشخصيات متنوعة.
بعد ذلك انتقلت للعمل كمعدة تلفزيونية في مؤسسة إعلامية كبيرة، بأحد البرامج الرئيسية لها، ثم انتقلت للراديو، وركّزت على تطوير نفسي، ودرست في مجال الصوت والتقديم التلفزيوني بالجامعة الأمريكية، بعد ذلك سافرت لإحدى الدول السياحية، وقابلت زميلاً كنت أعرفه وقت العمل بالراديو، وكان زميلي يعرف أنني أود العمل مذيعة تلفزيونية، وأخبرني عن قناة تحتاج لمذيعات في هذا البلد، حينها توترت وخفت قليلاً من تواجدي بالحجاب وسط هذا الوسط الإعلامي، وربما أتعرض لمضايقات بسببه.
لكني بالفعل تقدمت لهذه الوظيفة ورجعت لبلدي ونسيت الموضوع تماماً، ولكن بعد شهرين وجدتهم يتواصلون معي، ويطلبون مقابلتي في أقرب وقت، وأنه تم اختياري من بين 25 شخصاً تقدموا لهذه الوظيفة.
وخطوة وراء خطوة أصبحت مذيعة، وتنقلت للعمل بين 3 قنوات مختلفة، وسافرت وتعلمت الكثير من زملائي، وتعاونت مع مؤسسات أجنبية وعربية، وما زلت أُكمل طريقي لتحقيق أهدافي وحلمي.
وبعد حديث الأحلام والكفاح والسفر، دعوني أحدثكن عن أكثر المشاكل والمصاعب في مهنة المذيعة التلفزيونية:
1- "تجميد المشاعر"، مطلوب منك طوال الوقت عدم إظهار مشاعرك أو أي تفاعل مع الأخبار أو الضيوف أو الحالات الإنسانية، يجب أن تكوني متماسكة طوال الوقت، هذا الأمر يكون صعباً في البداية، بعد ذلك تُصيبك حالة من الفتور كالتي تصيب الأطباء والممرضات وهم يتعاملون مع المرضى والمشاهد الصعبة في غرفة العمليات الجراحية، فتجدين نفسك تنقلين أخبار الحوادث والقتل والموت بلا تأثر، لكن هذه اللامبالاة والتعود على هذه الأخبار شيء قاس ومؤلم ويؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية.
2 – "أنتِ بخير دائماً" مهما كنتِ تمرين بمشاكل في البيت أو الحياة، يجب أن تتعلمي في هذه المهنة أن تنسي تماماً الفترة العصيبة التي تمرين بها بمجرد دخولك الاستوديو، حتى لو وصل الأمر لحالة وفاة، مشاعرك ووجهك وانفعالاتكِ ليست ملكاً لكِ أمام الكاميرا، عادي جداً أن ترجعي من عزاء شخص عزيز عليك إلى الاستوديو لتقدمي فقرة ترفيهية وأنتِ بكامل أناقتك وثباتك ومندمجة بشكل حقيقي.
3- "الوقت" العمل في مجال الإعلام، وخصوصاً البث المباشر، لا يوجد به أي أعذار تأخير مقبولة، فمثلاً لا يمكنكِ التأخير لأنك غفوت في النوم 5 دقائق إضافية، التأخير دقيقة واحدة في هذا العمل يعني كارثة حقيقية، يجب أن تحسبي وقتك بشكل دقيق، وأن تكوني متواجدة قبل البث بمدة كافية، وأن تضعي في حسبانك وقتاً إضافياً لحالات الطوارئ التي من الممكن أن تقابلك في يومك، من زحام مروري أو حوادث أو تعطل سيارة، كما أنه لتجهيز ملابسك ومكياجك قبل الهواء تحتاجين أن تكوني متواجدة في العمل قبل 3 ساعات من عملك على الأقل.
والأصعب من ذلك مذيعات النشرات الإخبارية، وقتهن ليس ملكاً لهن، ففي أي لحظة قد تكون هناك تغطية إخبارية عاجلة لحدث ما، فوقتك حينها قد يكون مرتبطاً بشخص قرّر مثلاً خطف طائرة الساعة السابعة صباحاً، أو قام بتفجيرٍ الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، حتى في رمضان قد تتناولين إفطارك بعد المغرب بساعة أو أكثر بسبب تغطية عاجلة، وقتكِ هو ملك عملك في هذه المهنة.
4- "الملابس" كل البنات بالتأكيد يرين المذيعات محظوظات لكونهن يمتلكن ملابس أنيقة وكثيرة، وأنها ترتدي في كل يوم شيئاً جديداً، وبالتأكيد خزانة ملابسهن تمتلئ دوماً عن آخرها، الحقيقة الصادمة أن بعض الملابس التي نظهر بها لا تكون ملكاً لنا، بل دعاية لعلامة تجارية، وباقي الملابس -وهي كثيرة بالفعل- لا نتمكن من ارتدائها مرة أخرى في حياتنا اليومية، لأنكِ بالتأكيد حين تقررين الخروج مع صديقاتك فلن تختاري الجاكيت الرسمي والكعب العالي، نحن كمذيعات ننتظر لحظة انتهاء الهواء حتى نخلع ملابسنا الرسمية هذه ونرتدي الجينز وflat shoes، هذا بالإضافة إلى أن 60% من راتبك يتم صرفه وإنفاقه على ملابس عملك فقط، والتي لا تتحمل المؤسسات الإعلامية من تكاليفها المادية إلا نسبة بسيطة جداً.
5- "الميكب"، لا توجد فتاة لا تحب وضع المكياج داخل البيت وخارجه، لكن هل تخيلتِ أن تكوني مجبرة على وضع المكياج وبشكل يومي، حتى إنه ليس مكياجاً عادياً، بل طبقات متعددة بعضها فوق بعض، ليس هذا فقط، بل أحياناً بعض إضاءة الاستوديو تحرق الوجه وتسبب التآكل للجلد، وقد تؤدي إلى تشوهات، لذلك يجب علينا أن نستخدم أنواعاً معينة من كريم الأساس وبودرة المكياج المخصصة للكاميرا وبكميات كثيفة، حتى تحمي الوجه وتكون طبقة عازلة، وفي نفس الوقت هذه الطبقات الكثيفة بعد مرور فترة من وضعها تسبب ضرراً كبيراً للبشرة، وتؤدي إلى ظهورها بشكل مجهد وباهت، لكن في الحالتين فإنها تتعرض لمشاكل كثيرة، وبالتالي تحتاج إلى عناية مضاعفة وباستمرار، كل شيء له ضريبته.
6- "الخصوصية" لأنكِ تتحولين إلى شخصية عامة فللأسف معظم الناس يتخيلون أن حياتك أصبحت مشاعاً، ولا يوجد شيء اسمه خصوصية، أو لا يوجد سؤال يُعتبر تدخلاً مباشراً في حياتك ومِن حقك رفضه، وكذلك يجب عليك تقبل أي تعليق سخيف على شكلك أو أي شيء آخر، قال لي أحدهم ذات مرة "ما دمتِ ارتضيتِ أن تكوني شخصية عامة، حتى لو في محيطك فقط، فيجب عليك كذلك أن تقبلي تبِعات هذا الأمر، وتعرفي أنه كما يوجد أناس يمدحون ويبالغون في المدح هناك من ينتقد، وبطريقة جارحة عديمة المسؤولية".
7- "الخطر"، نوع البرامج التي تقدمينها، أو المواضيع التي تكتبين عنها، أو حتى المؤسسة التي تعملين بها.. كل هذا يمثل ترمومتر الخطر الذي تدورين داخله، في إحدى المرات قمت بتحقيق استقصائي عن نساء في بلد ما، وبسبب طبيعة المجتمع والثقافة في هذا البلد تعرضت لتهديدات ومضايقات لفترة طويلة، يجب أن تدركي هذه النقطة بشكل جيد.
الخلاصة التي أود قولها لكِ: إن لكل مهنة سلبياتها وإيجابيتها مهما بلغ بريقها وجمالها من الخارج، بالعكس كلما زادت المميزات تزيد أمامها المتاعب والسلبيات بنفس المقدار، وربما أكثر. فكرة أن الحياة وردية لا توجد في أي عمل بالعالم.
ولكن في نفس الوقت يجب أن تكوني مؤمنة أن حلمك يستحق التعب والتضحية لأنهما جزء من متعة الوصول، كما قال أسامة عطا الله: "قف أمام واقعك وقاتِل، وابتعد عن ناصية الحلم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.